أفكار وموضوعات للمناقشة:هل ستستعيد حركة اليسار دورها الفكري والسياسي على الصعيد العالمي؟ ما العمل المنشود في

Publié le par Mahi Ahmed

أفكار وموضوعات للمناقشة:هل ستستعيد حركة اليسار دورها الفكري والسياسي على الصعيد العالمي؟ ما العمل المنشود في العراق؟- الحلقة الرابعة والأخيرة-


كاظم حبيب
 - 2010 / 9 / 6
المحور: مواضيع وابحاث سياسية

نشأت الحركة اليسارية الحديثة في العراق في أوائل عشرينات القرن العشرين وبرزت بوضوح نسبي في جماعة الصحيفة التي كان يصدرها حسين الرحال ابتداءً من العام 1924. أي في فترة الصراع على ثلاث مسائل أساسية كانت موضع نقاش واسع في المحافل السياسية العراقية حينذاك, وهي: 1) مشروع الدستور العراقي الذي وضعته سلطة الاحتلال البريطانية ونوقش وأقر من قبل الجمعية التأسيسية في العام 1925؛ و2) الاتفاقية العراقية-البريطانية التي وضعت من قبل سلطة الانتداب أيضاً في العام 1922 ونوقشت وعدلت عدة مرات ثم أقرت أخيراً من قبل مجلس النواب في العام 1930, والتي أصبحت موضع رفض قوى المعارضة السياسية العراقية؛ و3) واتفاقية امتياز النفط الخام التي عقدت مع شركة النفط العراقية في كركوك في العام 1924, والتي أصبحت مدار صراع شديد مع قوى المعارضة والشعب طوال العقود التالية, إضافة إلى اتفاقيتي الموصل والبصرة اللتين عقدتا في عامي 1938 و1939 مع نفس الشركات الاحتكارية النفطية.
ولكن لم تكن هذه الموضوعات وحدها موضع نقاش وصراع مستديم حسب, بل كانت هناك قضايا أخرى جوهرية خاضتها القوى الوطنية العراقية عموماً, ومنها قوى اليسار, في بغداد والبصرة والنجف والسليمانية وأربيل والحلة والموصل وبقية المدن الأخرى وتلك التي شاركت في انتفاضتي النجف (1918) والسليمانية (1919) وثورة العشرين (1920) العراقية, ومنها قضايا الانتداب والاستقلال الوطني والتخلف والفقر والجهل والمرض والتربية والتعليم وحقوق المرأة وموضوع الحجاب والسفور. ثم تنوع النقاش ليشمل في العشرينات أيضاً موضوع إقامة وحماية الصناعة الوطنية وتنشيط الحركة النقابية التي برزت في تأسيس جمعية أصحاب الصنائع وعلى رأسها محمد صالح القزاز. وفي الثلاثينات نشأت حركات فكرية وسياسية إصلاحية وطنية ويسارية أكثر عمقاً وشمولية في طرحها للمشكلات التي يعاني منها العراق, إضافة إلى بروز النشاط الشيوعي في كل من بغداد والبصرة والناصرية. ووجدت هذه القوى الوطنية, ومنها اليسارية, أشكالاً مختلفة لتنظيم نفسها كما في الحزب الوطني وجماعة الأهالي والإصلاح الشعبي وجمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار التي نشأ عنها الحزب الشيوعي العراقي. ثم نمت وتطورت هذه الحركات أثناء وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث ظهرت قوى وطنية وقومية جديدة, إضافة إلى بروز قوى وأحزاب يسارية عديدة سعت للحصول على إجازة رسمية لها. بعضها حقق نجاحاً مؤقتاً وبعضها الآخر رفضت إجازته رسمياً وأجبر على العمل في السرية. وأبرز تلك القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية التي عملت في الأربعينات من القرن الماضي, سواء لفترة قصيرة أم طويلة وسواء أجيزت أم أجبرت على العمل السري أو توقفت عن العمل. نشير هنا إلى بعض من أبرز تلك القوى التي ناضلت ضد الاتفاقيات العسكرية والسياسية التي اعتبرتها مخلة بالاستقلال والسيادة الوطنية أو إنها تربط العراق بأحلاف عسكرية دولية تخرج العراق عن حياده الدولي, ومنها: الحزب الشيوعي العراقي وحزب الشعب وحزب التحرر الوطني والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الأحرار وحزب هيوا والحزب الديمقراطي الكردي وعصبة مكافحة الصهيونية التي كان أغلب أعضائها من الشيوعيين اليهود والمستقلين المناهضين للقوى القومية اليمينية اليهودية (الصهيونية). وامتد عمل بعض هذه الأحزاب والقوى في العقد السادس من القرن العشرين, في حين توقف أو اندمج بعضها بالبعض الآخر. وفي الحركة القومية برز حزب الاستقلال ومن ثم حزب البعث فيما بعد في العراق أي في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين, إضافة وجود حزبين لإسلاميين هما جماعة الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي (السنة)؛ ونواة لحزب الدعوة الشيعي. وفي أعقاب ثورة تموز نشأت أحزاب سياسية وطنية ويسارية قديمة وحديثة, بعضها حصل وبعضها الآخر لم يحصل على إجازة عمل رسمية, وتلك التي حصلت على إجازة لم تدم طويلاً, سواء أكان ذلك قبل سقوط الجمهورية الأولى أم بعد سقوطها بانقلاب القوى البعثية والقومية اليميني المتطرفة في العام 1963.
والحزب السياسي اليساري الماركسي الوحيد الذي استمر يعمل في العراق طيلة الفترة الواقعة من العام 1934 إلى الوقت الحاضر هو الحزب الشيوعي العراقي. أما الحزب الديمقراطي الكردستاني فقد تأسس في العام 1946 وواصل العمل أيضا إلى الآن. ورغم حصول عدة انشقاقات في الحزب الشيوعي العراقي منذ العام 1942 وقيام تنظيمات مؤقتة لتلك القوى التي انشقت عنه, فأن عمرها كان قصيراً جداً ولم تستطع مواصلة العمل السياسي أو أن بعضها تلقى ضربات قاسية من نظم الحكم لم تستطع الصمود أمامها فانتهى وجودها تنظيمياً في الداخل, ولكن بعضها القليل شكل كتلاً صغيرة في الخارج. بعضها لا يزال قائماً إلى الآن وبعضها انتهى في حينه. وفي منتصف ونهاية السبعينيات من القرن العشرين ظهرت قوى وأحزاب وطنية ذات اتجاهات متنوعة, وبضمنها يسارية في العراق وخارجه, وخاصة تنظيمات تشكلت في الخارج أو في سوريا, وأبرزها الاتحاد الوطني الكردستاني (1976) وأحزاب يسارية صغيرة كانت لها تنظيمات صغيرة جداً أو بعض الأفراد في دمشق,
كل القوى الوطنية الديمقراطية, ومنها قوى اليسار أو في مقدمتها, لعبت خلال العقود المنصرمة دوراً مهماً وحيوياً, سواء أكان في النضال من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية ومكافحة السيطرة الاستعمارية الأجنبية, أم في سبيل الحريات العامة والحياة الدستورية والديمقراطية وحرية التنظيم, أم في سبيل القضايا الاقتصادية كحل مسألة الأرض الزراعية لصالح الفلاحين ومن أجل التصنيع والاستثمار العقلاني لموارد النفط المالية من أجل التنمية وتنويع الاقتصاد الوطني والتنمية البشرية على مستوى العراق كله. كما كانت تناضل من أجل حل المشكلات الاجتماعية, منها مشاكل التربية والتعليم العام ومكافحة الأمية ومكافحة الفقر والبطالة, أو في سبيل حقوق المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومساواتها بالرجل ومن أجل سن قانون للأحوال الشخصية الذي يضع حداً لاستغلال واضطهاد وحرمان المرأة من حقوقها العامة ومن استقلالها الاقتصادي, أي المشاركة في العمل والإنتاج وجميع فروع الاقتصاد. كما كان للحركة الوطنية عموماً والحركة اليسارية خصوصاً دورها الفعال والمباشر في نشر الوعي السياسي والاجتماعي والدعوة إلى تشكيل النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والتنظيمات الشبابية والطلابية والنسائية وحركة أنصار السلام في العراق. وتحمًّل الحزب الشيوعي العراقي القسط الأكبر في هذه العملية النضالية, إضافة إلى بعض الأحزاب الوطنية التي كان بعضها يعمل بصورة موسمية. كما لعب الإعلام الوطني والديمقراطي لهذه القوى في نشر الفكر التنويري الاجتماعي في المدينة والريف, رغم المحاربة الشديدة التي تعرض لها الإعلام الوطني والمستقل واليساري بشكل خاص من النظم التي حكمت العراق بشكل عام, في ما عدا فترات قصيرة امتلكت حرية نسبية في النشر والدعاية الفكرية والسياسية.
لقد نشأت الحركة اليسارية على الأرض العراقية وفي إطار القوى الوطنية العراقية ونمت وتعززت بفعل تبني قوى سياسية واجتماعية عراقية لها متأثرة بالمبادئ العامة التي نشرتها الثورات في أوروبا والحركات والثورات السياسية في عدد من الدول المجاورة, ومنها مبادئ الثورة الفرنسية والثورة المشروطية في إيران (1905) والثورة الروسية في نفس العام والحركة الدستورية في تركيا في العام 1908 والنشاط الفكري والسياسي الوطني واليساري في كل مصر ولبنان وسوريا, إضافة إلى الثورتين الروسيتين في شباط وأكتوبر (الاشتراكية) وكلاهما في العام 1917 والثورة الألمانية في العام 1918.
وقد تأثر الحزب الشيوعي العراقي بالحركة الاشتراكية في كل من مصر وفلسطين ولبنان وسوريا وبتأثير أفكار الأممية الثالثة تم تشكيل جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار ثم تغير الاسم إلى الحزب الشيوعي العراقي بناء على نصيحة وتوجيه وشرط الانتماء إلى الأممية الثالثة (الأممية الشيوعية) التي كان لها الدور المهم والتأثير الفعال على فكر وممارسات الحزب الماركسي – اللينيني في العراق, والذي كان يطلق عليه وعلى الأحزاب الشيوعية الأخرى "حزب من طراز جديد".
إن العمل السري الذي أجبرت عليه قوى اليسار العراقي, وخاصة الحزب الشيوعي العراقي من جهة, بسبب المحاربة الشديدة من نظم الحكم وقوى سياسية دينية وقوى رجعية وقومية وبعثية يمينية ويمينية متطرفة خلال العقود المنصرمة من جهة أخرى, والدعاية والإعلام الاستعماري والرأسمالي الذي وجه جام غضبه ضد الحركة الوطنية العراقية, وخاصة قوى اليسار فيها, من جهة ثالثة, وتأثير المدرسة الفكرية والسياسية للماركسية–اللينينية على فكر الحزب الشيوعي العراقي, باعتباره جزءاً من الحركة الشيوعية العالمية ومن المدرسة الفكرية ذاتها من جهة رابعة, ثم تأثير السياسة الدولية لحليف الحركة الشيوعية الاستراتيجي, الحزب الشيوعي في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية والدولة السوفييتية, من جهة خامسة, والواقع الاقتصادي والاجتماعي والتخلف العام في البلاد ومصاعب الحياة التي كانت تعاني منها الغالبية العظمى من الشعب من جهة سادسة, والمستوى الفكري والسياسي لقوى الحركة اليسارية العراقية ذاتها من جهة سابعة, لعبت كلها أدوارها المتباينة نسبياً وفي فترت متباينة في مدى قوة تأثيرها على فكر وسياسات وممارسات الحزب الشيوعي العراقي, سواء في وضع سياسات صحيحة ومؤثرة على حركة الشعب ووعيه ومهماته, أم أحياناً خاطئة بسبب واقع الهروب إلى أمام في مجمل الحركة الشيوعية العالمية وفي سياسات ومواقف الدول الاشتراكية, أم بسبب عدم التحليل السليم لطبيعة ومهمات وقور المرحلة, مما جعل بعض المهمات غير متطابقة مع واقع الحياة بحيث حملت الحزب ورفاقه وأصدقاء الحزب والجماهير متاعب ومصاعب غير قليلة.
إن استخدام المنهج العلمي المادي الجدلي في دراسة وتحليل واقع واتجاهات تطور قوى الحركة اليسارية العراقية خلال القرن الماضي وإلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين سيسهم في إنارة طريق السير الراهن والمستقبلي لمجمل حركة اليسار والحركة الوطنية العراقية ويساعد على استخلاص الدروس والعبر منه وتجنب الوقوع بالأخطاء, خاصة وإن هذه الفترة مليئة بالعقبات الجدية بسبب تعقيدات الوضع العام الداخلي وتشابكاته مع الوضع والقوى والدول الإقليمية وعلى الصعيد الدولي.
إن المهمة المباشرة التي تواجه المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة تبرز في أهمية وضع اليد مباشرة على العقد الفعلية أو المشكلات التي تواجه المجتمع في مختلف المجالات وعلى كافة المستويات. إن دراسة هادئة وموضوعية باستخدام أدوات التحليل العلمية ستساعد على التشخيص المناسب للمشكلات ومن ثم وضع العديد من احتمالات الحلول العملية والسعي إلى تكرار دراستها من أجل اختيار أكثرها قرباً من الواقع وإمكانيات حركة اليسار وقدرات المجتمع على النضال من أجل تحقيقها.
رغم الدور الكبير الذي تلعبه القوى الدولية والإقليمية في العراق وتأثيرها المباشر وغير المباشر على سياسات البلد والقوى الفاعلة فيه, فأن المشكلة الأساسية تكمن في العراق ذاته, في قواه السياسية ذاتها. فالصراع يدور في ما بينها على السلطة, رغم تأييد وتأثير هذه الدولة الأجنبية أو تلك, سواء أكانت عربية أم غير عربية, إقليمية أم من خارج الإقليم, على هذه القوة السياسية أو تلك, فأن واقع الحال يطرح أربعة مستويات من الصراعات الدائرة في المجتمع:
- صراع شديد ومتفاقم على السلطة من جانب كل حزب سياسي بمعزل عن طبيعته وتكوينه الفكري والسياسي والاجتماعي.
- صراع طائفي على السلطة بين الأحزاب السياسية ذات الانتماء الشيعي والأحزاب السياسية ذات الانتماء السني للسيطرة على مقاليد الحكم من خلال موقع رئيس الوزراء الذي وضعت في يده كل السلطات بشكل غير ديمقراطي وغير سليم.
- صراع على المواقع والمصالح والأهداف بين ما يطلق عليه بمكونات المجتمع القومية والمذهبية (أي العرب الشيعة والعرب السنة والكُرد),
- وصراع في ما بين أفراد النخب السياسية العراقية الراهنة, إذ أن كلاً منهم يريد أن يكون رئيس الوزراء ليمارس من موقعه سياسة الهيمنة والتصرف في السلطة والنفوذ الاجتماعي وعلى أجهزة الدولة والمال في آن واحد. أي أن المصلحة الشخصية تلعب هنا دورها البارز والمسيء للحياة السياسية ومصالح البلاد. وكل يدعي بأنه لا يعمل بأي حال من أجل مصالحه, وهو مستعد أن يقسم بأغلظ الإيمان على ذلك, وليس هناك من يقول بأنه يعمل لمصلحته بل لمصلحة البلاد. ومن كان منهم مؤمناً حقاً فما عليه إلا أن يدفع كفارة قسمه بعض المال أو "الخبز والكرفس والكراث والجبن" لبعض الناس, فبين مصالح هذا وذاك تضيع مصالح البلاد والشعب.
وهذه الصراعات تتجلى أيضاً في صراع خامس, إذ لا يزال ميزان القوى فيه غير متكافئ, وأعني به الصراع بين قوى الإسلام السياسية السنية والشيعية من جهة, والقوى الديمقراطية العلمانية من جهة أخرى. فميزان القوى لا يزال يميل إلى الآن وبقوة واضحة جسدتها نتائج الانتخابات المحلية والعامة الأخيرتين لصالح الطرف الأول, إذ أنه يحظى بتأييد دولي وإقليمي واسعين. وهي مشكلة ذات أبعاد فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية كبيرة على البلد والمنطقة عموماً.
وهنا يفترض أن يتحدد الموقف لا من وجود وعمل القوى الأجنبية التي لا تزال تعمل في البلاد في ضوء الاتفاقية الأمنية والسياسية المبرمة مع الولايات المتحدة الأمريكية فحسب, بل والموقف من هذا الصراعات المتنوعة ذات الفعل الكبير في الوضع القائم في البلاد.
إن الصراعات الأربعة الأولى هي التي عطلت تشكيل الحكومة خلال الأشهر المنصرمة منذ انتهاء الانتخابات العامة الأخيرة (2010), وهي التي لا تزال تتفاعل أزمتها مع بقية الأزمات التي تشمل البلاد لتنتج أوضاعاً شاذة ومعقدة.
فالعراق أمام قوى إرهابية نشطة محلياً, ولكنها تجد أكبر الدعم والتأييد والمساندة الفكرية والسياسية والمالية وبالأفراد الانتحاريين والمنظمين من دول الجوار على نحو خاص, وهي التي يفترض أن يتوجه لها الجهد في المكافحة ليس عسكرياً فحسب, بل فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً, أي أن تطرح قوى اليسار سلة متكاملة من مشروعات مواجهة الإرهاب من أجل القضاء عليه والخلاص منه. إن تعدد قوى الإرهاب وتنوع أساليب نشاطها وأدوات عملها وتعدد القوى المساندة والداعمة لها, يجعل من أمر مكافحتها مسألة معقدة حقاً, خاصة وأن سلامة الجهة الأمنية والعسكرية المضادة لها لا تزال قيد الشك النسبي والبحث عن أولئك الذين تسربوا إلى صفوفها ويعملون على تبويشها من الباطن.
إن الحالة التي يعيش فيها العراق غريبة من نوعها, ولكنها طبيعية نتيجة للعقود التي ساد فيها النظام الدكتاتوري والطريقة التي سقط فيها النظام والسياسات التي انتهجت في أعقاب ذلك إلى الآن. فالحرية القائمة فيها الكثير جداً من الفوضى والمخاطر على الفرد وحقوقه, والديمقراطية غير مستوعبة من كثير من الحكام الذين يتحدثون بها ولا يعون مضامينها الحقيقة وهي بالنسبة لهم أداة وليست فلسفة ونظام سياسي. وهي غائبة عن مؤسسات الدولة البيروقراطية ولا توجد شفافية فيها ويسودها الفساد. وهي كلها أمراض وعلل متوارثة ولكن لم تعالج وبالتالي فهي متفاقمة. إن النضال من أجل مبادئ الحرية والحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان ليست شعارات فقط, بل هي مضامين عميقة تحتاج إلى تبني حقيقي ونضال دءوب وبلا كلل من جانب قوى اليسار, وليس مضراً بها أن تبقى في المعارضة من اجل تعبئة المجتمع لصالح تلك المهمات الديمقراطية وبناء المجتمع الديمقراطي.
ويقف العراق أمام سياسات طائفية تشكل الأرضية الصالحة, بالتفاعل مع الفقر والبطالة والحرمان والفساد والتدخل الإقليمي, لنشوء وتطور الإرهاب وصعوبة القضاء عليه. كلنا يدرك بأن العامل الديني والمذهبي معقد جداً في بلد لم يستطع إلى الآن تحقيق ولو بعض التنوير الديني في المجتمع وممارسة بعض جوانب المدنية والعلمانية في البلاد وفصل الدين عن الدولة, أو الحيادية إزاء مختلف الأديان والمذاهب الدينية. ولا بد من إيلاء هذه المشكلة الاجتماعية أهمية خاصة.
المجتمع العراقي أمام مشكلة اقتصادية كبيرة تتصارع فيها المصالح والإرادات الخاصة المبعثرة للمجهود المشترك الذي يفترض أن ينصب على التنمية الاقتصادية, وخاصة تحديث الزراعة والتصنيع وترشيد التجارة الخارجية وضبط إنتاج وتصدير واستخدام مورد النفط وأمواله بما يسهم في تسريع عملية التنمية والبنية التحتية المخربة إلى الآن, وخاصة الطاقة الكهربائية ومشكلة المياه والبطالة الجائرة والتضخم الهائل وغير المعقول في الجهاز الحكومي حيث يؤكد المطلعون إلى تجاوزه ألـ 2,5 مليون نسمة.
إن عراق اليوم يواجه عملية غزو تجارية من دول الجوار والعالم كله, بما يقود إلى منع البدء بتنمية صناعية وتحديث وتطوير زراعيين ودعم الصناعات الحرفية التقليدية وتحديثها, وهو ما يفترض الوقوف بوجهه ومنع استمراره, إذ أنه يشكل جوهر السياسة اللبرالية الجديدة في المرحلة الراهنة وهي التمهيد لفرض الجوانب الأخرى من مضامين هذا المشروع المحدد منذ سقوط النظام وباتفاق مع وزارة التخطيط في عهد الوزارة الأولى أثناء وجود الحاكم بأمره پول بريمر على راس الإدارة الأجنبية المدنية والعسكرية في العراق.
إن الفراغ السياسي الراهن وغياب إستراتيجية التنمية الاقتصادية والبشرية والاعتماد على انتقائية من مشروع اللبرالية الجديدة يزيد من تخلف الاقتصاد العراقي ومشكلاته ويسهم في تعطيل العملية الحركية (الديناميكة) الضرورية للعملية الاقتصادية أو التي يحتاجها الاقتصاد العراقي المخرب ويحرم القطاع الخاص وقطاع الدولة والقطاع المختلط في المرحلة الراهنة من النهوض بأعباء التنمية.
ويبدو لمن يتابع العلاقة المتوترة باستمرار بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية التي تتجلى في تصريحات المسؤولين في قطاع النفط ووزارة المالية وقضايا حدود المحافظات وغيرها, إن هذه الإشكاليات ستبقى تنغص الواقع العراقي ما لم يجر تحديد واضح لتلك المشكلات والجلوس إلى طاولة المفاوضات لمعالجتها. وهذا الأمر يتطلب من قوى اليسار أن يكون لها موقفها الواضح من كل فقرة من فقرات الخلاف, إذ أن وحدة الدولة العراقية وتقدمها يعتمد بشكل فعلي على طبيعة العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
إن مشكلات الوضع الاجتماعي في العراق تشكل عبئاَ ثقيلاً على المجتمع والدولة العراقية والتي هي غير منفصلة عن الوضع السياسي والاقتصادي المعقدين. فليس الفقر, (الذي بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر العام أكثر من 40% من السكان, وأن الذين يعيشون فوق خط الفقر بقليل هي نسبة أخرى عالية حقاً وأن نسبة الأغنياء وأصحاب الملايين من الدولارات وربما المليارات من أصحاب النعمة الحديثة والقطط السمان وتفاقم الفجوة المتسعة بين الغالبية العظمى من الفقراء والأقلية الصغيرة جداً من الأغنياء), فحسب, بل هناك المشكلات الصحية والتربوية والتعليمية والبيئية ومشكلات المرأة والطفل والبطالة والتشرد والفساد المتعاظم وتفاقم حالات العهر وتعاطي المخدرات والتعامل بها, كلها تشكل الخطر الذي داهم المجتمع منذ العقد الأخير من القرن العشرين وتفاقم في أعقاب سقوط النظام الاستبدادي بسبب الفوضى والإرهاب وغياب الحياة الدستورية والديمقراطية السليمة وغياب الحكومة القوية في اعتمادها على الدستور والقوانين وليس بقوة رئيسها أو تحوله إلى فرد قوي ومستبد بأمره.
إن الكفاح ضد الطائفية السياسية وضد النزعات الشوفينية وضيق الأفق القومي تحتل مكانة كبيرة في سلم أوليات قوى اليسار العراقية. إذ أن النضال ضد إقامة دولة دينية في العراق على غرار إيران, أو قومية على غرار سوريا أو ليبيا, أو خليط من ديني وقومي على غرار الدولة المشوهة في السودان واليمن ...الخ, يسهم في معالجة المزيد من المشكلات التي تساعد على بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية والدستورية والمجتمع المدني الديمقراطي. وبغير ذلك ستتعقد مسيرته السياسية الراهنة واللاحقة.
إن البحث في الخطاب الديني والطائفي يفترض أن لا يكون محرماً ولا بد من تحريم الطائفية ومعاقبة من يسوغها ويسوقها في المجتمع وكذا القضايا الأخرى, إذ أنها تخلق براميل بارود يمكن أن تتفجر في كل لحظة في المجتمع العراقي المتعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية.
إن هذه المشكلات وغيرها كثير تشكل المحاور التي يفترض في قوى اليسار أن تتحرى عن معالجات لها تطرح على شكل مهمات ملموسة يفترض النضال من اجل إنجازها من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة.
إن قوى حركة اليسار العراقية بقوامها الراهن, سواء أكانت أحزاباً أم قوى وتكتلات أم شخصيات يسارية مستقلة, تواجه مهمة أساسية تتلخص في كيفية التنسيق في ما بينها وتوحيد جهودها وإيجاد قواسم مشتركة لها للعمل المشترك لتستطيع إيجاد قواسم مشتركة أخرى مع بقية القوى الديمقراطية العراقية للنهوض من الكبوة الراهنة التي هي نتاج الأوضاع السابقة واستمرار وجود عوامل تعيق تطورها السريع وتوسيع قاعدتها السياسية في ضوء ما تطرحه من مهمات تشمل قاعدة اجتماعية واسعة. إن التعاون في ما بين القوى اليسارية والقوى الديمقراطية واللبرالية العراقية في هذه المرحلة ولسنوات طويلة لاحقة ستحمل معها آفاق جديدة ورحبة لحركة المجتمع وتحقيق أمانيه.
5/9/2010 كاظم حبيب

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article