Une contribution de Makhlouf Ameur

Publié le par Mahi Ahmed

الحلقة المفقودة

 

    لقد صار من البديهي أن من طبيعة أي حكم جديد سواء أكان دينا أم لا  أن يجتهد ما وسعه الاجتهاد في تضخيم عيوب الفترة السابقة عنه وحَجْب جوانب أخرى لا يرتضيها .

وظهور الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية ثم قيام الدولة العربية الإسلامية لا يشكل استثناء من ذلك .

فوَصْف عرب ما قبل الإسلام بالجاهليين – رغم أنه محصور في الناحية الدينية – إلا أنه ظل يمارس تأثيره على العقول ممتدا إلى كل فروع المعرفة الأخرى ، و ممتدا أيضا إلى كل الحضارات السابقة . فهي في منظور الخطاب الديني/ السياسي الجديد، حضارات وثنية عبودية جاهلية همجية....الخ

و كأن لغة الخطاب الجديد لا تستقيم إلا بموازنة حاضر الدعوة البراق بالماضي الرديء، حتى يبدو هذا الحاضر عديم الجذور أو كأنه انطلق من لا شيء.

   الموازنة القائمة على تقبيح صورة الماضي لتجميل صورة الحاضر تصبح وسيلة إقناع لا غنى عنها .وما أكثر الذين يحملون في أذهانهم صورة مشوهة عن عرب ما قبل الإسلام إذ يتبارون في تضخيم ظاهرة الصراع القبلي و ظاهرة و أْد البنات و ينزلون في وصف سلوكاتهم إلى درجة الحيوانية.

هذا الاتجاه يتخذ فيه الخطاب السياسي صفة مثالية مطلقة فينفي الخطاب المعرفي أو يؤجله .

هذا ما ينطبق على أولئك الذين أسلموا قبل الإسلام ولم يصلنا عنهم إلا القليل ، و القليل الذي وصلنا ما يزال يحتاج إلى الفرز والتمحيص و التدقيق .

" خالد بن سنان العبسي" زعم بعضهم أنه كان نبيا . و لما جاءت ابنته يوما إلى الرسول بسط لها ثوبه و قال "مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه" .

و يروي " ابن كثير في السيرة النبوية أن "أمية بن أبي الصلت" قد شُق صدره.

و الرواية أشبه بتلك التي تقال عن الرسول. و تنسب لأمية بن أبي الصلت  أشعار و قصص كلها تدور في فلك التوحيد.

و يقال عن "قس بن ساعدة الإيادي " إنه ((أول رجل تأله من العرب ووحد ، وأقر وتعبد ،

 و أيقن بالبعت و الحساب، و حذر سوء المآب ...))([1])ويُحكى أن الرسول كان يطلب أخباره

و يحب أن يستمع إلى شعره .

ومن نثره ما يُذَكر بالقرآن فهو القائل :

(( لقد ضل الأنام ، نشو مولود، ووأد مفقود ، و تربية محصود ، و فقير و غني ، و محسن ومسيء، تبا لأرباب الغفلة ، ليصلحن العامل عمله ، و ليفقدن الأمل أمله  كلا ، بل هو إله واحد ، ليس بمولود ولا والد، أعاد و أبدى، و أمات و أحيا ، و خلق الذكر و أنثى ، رب الآخرة والأولى )) ويقول : ([2])(( فويل لمن صدف عن الحق الأشهر ، والنور الأزهر والعرض الأكبر ، في يوم الفصل ، و ميزان العدل ، إذ حكم القدير ، وشهد النذير، و بعد النصير ، وظهر التقصير،  ففريق في الجنة و فريق في السعير )).([3])

و من الأشعار التي تنسب إلى زيد بن عمرو بن نفيل  قوله:

أرب واحد  أم ألف رب       أدين إذا تقسمت الأمـور

عزلت اللات والعزى جميعا     كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا أبنتيها      ولا صَنَمَيْ بني عمرو أزور

ولكن أعبد الرحمن ربي        ليغفر ذنـبي الرب الغفـور

فتقوى الله ربكم احفظوها       متى تحفظوها لا تبــوروا

ترى الأبرار دارهم جنان      وللكفار حامية سعيـــر( [4] )

هذا وغيره من الأقوال الموروثة ما جعل خصوم الإسلام  يرَوْن في القرآن ضربا من سجع الكهان ، بل ذهب بعضهم  إلى تقليده  من باب السخرية والتندر .

وبالإضافة إلى (خالد بن سنان وأمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل                   وبحير الراهب وورقة بن نوفل ومسيلمة الذي لقب بالكذاب وسجاح التي ادعت النبوة ، لا شك أن هناك أسماء أخرى كثيرة لم تصلنا أخبارها ، وربما كانت أهم ولو هي لم تسمح لها الشهرة بالظهور على الساحة يومئذ. وكما يقول جوته :

((وإن من يشغل المكان الأول ليس – اللهم إلا نادرا – هو الذي يقوم بالدور الرئيسي ، فكم من ملك يحكمه وزراؤه ، وكم من وزراء يحكمهم سكرتيرهم ؟ ومن في هذه الحالة هو الرئيس الحقيقي ؟ إنه في نظري من يستطيع أن ينفذ ببصيرته إلى حقيقة الآخرين ولديه من القوة أو البراعة ما يجعل قوتهم وأهواءهم في مقدمة ما يريد تنفيذه من أهدافه شخصيا )).([5])

     إن ما وصل إلينا عن فترة ما قبل الإسلام لا يمكن أن يعد كافيا فضلا عن كونه يحتمل التشويه ، وذلك بفعل طغيان السياسي ونقضه للمعرفي ، وإلا فلماذا لا تحدثنا كتب التاريخ عن الحنفاء بوصفهم كانوا يمثلون حركة دينية سرية ، ويسعون إلى تشكيل تنظيم سياسي معارض في ثوب ديني .؟؟ وهم الذين لا يَرِد ذكرهم في القرآن إلا وفيه درجة عالية من التقدير. وكثيرا ما ترد كلمة الحنفاء أو حنيف مقرونة بعدم الشرك أي التوحيد أو ملة إبراهيم  ، وهو جوهر ما قامت عليه الدعوة الإسلامية ، كما تؤكد الآيات القرآنية – في الوقت ذاته - أن صاحب الدعوة ينتمي إلى هؤلاء الحنفاء أو الأحناف ، ومن ذلك :

((وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين)) سورة يونس ،الآية 105 .

(( حنفاء لله غير مشركين به ....)) سورة الحج من الآية :29.

((ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين )) سورة آل عمران، الآية 66 .

(( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)) سورة البقرة، الآية 134 .

ومما يُروى عن الحنفاء أنهم كانوا يتبادلون فيما بينهم "مجلة لقمان " أو "حكمة لقمان" ، ولكن لأنهم شكلوا حركة  سرية ، ولأن القيادة آلت إلى المسار المعروف ، فإن سر الحنفاء يبقى بمثابة الحلقة المفقودة في التاريخ.

ثم إن طريقة النقض لم تبق محصورة في الموازنة ببعدها الأول أي : تضخيم عيوب الفترات السابقة وتزيين صورة العهد الجديد ، بل أخذت أبعادا أخرى كتوظيف المشاهير و ذوي السمعة في تأكيد صحة العهد الجديد بواسطة التنبؤ وهو ما حدث بالنسبة لكثيرين ممن ذكروا سابقا من الحنفاء أو النصارى أو اليهود .

وبعد ذلك صارت فترة الدعوة الإسلامية نموذجا كاملا ومتكاملا يصلح للتنبؤ بزيف المراحل اللاحقة إذا هي لم تكن نسخة لذلك النموذج أو قريبة منه على الأقل .

وما قول بعضهم بجاهلية القرن العشرين سوى أثر من أثار الموازنة بما يسمى " السلف الصالح " .

ولكن فكرة السلف الصالح تبقى عامة فضفاضة غير محددة المعالم ، وإذا ما عُرِضت على الواقع الذي أفرزها أصلا ، فسوف لا تجد غير خلافات ظاهرها عقيدة دينية وباطنها صراع من أجل السلطة .

إحالات:

 (1) و(2) : السيرة النبوية لإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير تحقيق :   مصطفى عبد الواحد الجزء الأول – مطبعة عيسى البابي الحلبي   وشركاه - القاهرة -1964.ص: 146 .

(3) : نفسه : ص: 147.

 

(4) : نفسه ، ص:163.

(5) : آلام فرتر :بوهان جوته – ترجمة لانا أبو مصلح – المكتبة الحديثة للطباعة والنشر – 1978 –ص :62

 

 

معنـى الأميـة قبل الإسلام

 

 

      الخطأ الشائع إلى اليوم في تحديد معنى الأمية هو حصرها في المستوى الأبجدي . ولعل كثيرين يُسْقطون هذا الفهم القاصر حتى على الآيات القرآنية والأحاديث التي وردت فيها كلمة الأمية ، رغم أن بعض أقطـاب الحركة الدينية والفكر الإسلامي المعاصر قد تنبهوا لذلك ، ومنهم :

يوسف القرضاوي " في كتابه " " الحلال والحرام في الإسلام " وسيد قطب في كتابه " في ظلال القرآن " .

ومن الآيات القرآنية التي تعرضت لذكر الأمية  :

" وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم " (آل عمران : الآية :20 ) .

" ذلك بأنهم قالوا :ليس علينا في الأميين سبيل " (آل عمران الآية : 75) .

" هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم " (الجمعة :الآية  : 2 ) .

    ففي الآية الأولى ذُكِر وصف الأميين مقرونا بالذين أوتوا الكتاب  . وهذا يعني أن الأميين ليسوا هم الذين يجهلون القراءة والكتابة ، بل هم الذين لا كتاب لهم . وقد عُرِف العرب أكثر من غيرهم بهذه الصفة لأنهم كانوا يعيشون بين المسيحيين واليهود ، وكان اليهود حريصين على الاعتزاز والتفاخر بأن لهم كتابا في حين أن العرب يفتقرون إليه أو إلى ما يعوضه . ومن ثم فإن القرآن قد سد ثغرة كبيرة بالنسبة للعرب . ولم تعد الموازنة بينهم وبين اليهود والمسيحيين قائمة على التشابه أوالمساواة ، بل تعدت ذلك إلى إبراز التفوق العربي الإسلامي وإثباته.إن القرآن من هذه الناحية قد  حل عقدة حضارية كبيرة .

والآيات الثلاث كلها تُعَمم ظاهرة الأمية ، والواقع غير ذلك فقد دلت الحقائق التاريخية والآثار

 والنقوش و الحفريات و الوقائع الموروثة أن نسبة كبيرة من سكان شبه الجزيرة كانوا يعرفون القراءة والكتابة ويعرفون زيادة على العربية لغات أخرى ، إذ لم تكن المنطقة في عزلة تامة كما يحلو للبعض أن يصوروها.

وهناك آية أخرى تصف الأميين بأنهم يكتبون الكتاب بأيدهم و ينسبونه إلى الله.

وظاهر الآية قد يوحي بالتناقض لمن يحصر الأمية في معناها الأبجدي ، في حين لا وجود لهذا التناقض عندما نقول إن الأميين هم الذين لا كتاب لهم. ففي سورة البقرة :

(( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " ( البقرة : 79،78 ) .

ويورد صاحب كتاب " مصادر الشعر الجاهلي " حديثا نبويا في هذا الشأن وهو ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر ، هكذا و هكذا )) ويعلق عليه قائلا :

(( فهذا الحديث لا يعني – أولا – إلا ضربا خاصا من الكتابة والحساب ، هو حساب سير النجوم ، و تقييد ذلك بالكتابة لمعرفة مطلع الشهر فقد أخبر أن هذا الضرب من العلم المدون المسجل القائم على الحساب والتقويم لم يكن للعرب عهد به ، و من هذا علق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنه في معاناة حساب التسيير ))(1)

ويضيف "ناصر الدين الأسد " – ثانيا – أن نفي الكتابة والحساب ليس عاما شاملا، (( وإنما هو نفي لأن تكون الكتابة وأن يكون الحساب نظاما عاما متبعا في كل الشؤون كما كان ذلك عند بعض الأمم الأخرى ذات التقاويم الفلكية ))( 2)

ومما رسخ الفهمَ الخاطئ لمعنى الأمية و كرسه ، ارتباطه بتأكيد أمية الرسول لتأكيد المعجزة وإثبات الوحي دفعا للشك والتشكيك، لأن الذي يجهل القراءة والكتابة يستحيل عليه أن يؤلف كتابا.

وفي الغالب تؤكد أمية الرسول بمعناها الأبجدي من خلال قصته مع جبريل يوم نزلت أولى الآيات من سورة العلق (( إ قرأ باسم ربك الذي خلق ....)).

فهل يصح أن نتصور بأن جبريل جاء بما يشبه الصحيفة المكتوبة وطلب إليه أن يقرأ وهو يعلم أنه لا يعرف القراءة ؟ أم أنه بحكمة إلهية أصبح منذ تلك اللحظة يعرفها ؟ أم أن الوحي ضرب من الإلهام لا يشترط مكتوبا ومقروءا ؟

إن الأحاديث التي تروي قصة التنزيل هذه لا تتفق على وجود شيء مكتوب فـ "سيد قطب" يورد ما نصه: (( أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه و سلم -  من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .

ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق و هو في غار حراء. فجاءه الملك فقال : إقرأ .قال ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلي فقال :اقرأ .

فقلت :ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ،ثم أرسلني فقال : اقرأ :فقلت : ما أنا بقارئ .فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : "إقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق .اقرأ وربك الأكرم .الذي علم بالقلم.علم الإنسان ما لم يعلم )).(3)

 

فأما الحديث الثاني فقد ذكر فيه ما يشير إلى وجود المكتوب ومنه : ((قال رسول الله عليه وسلم – فجاءني وأنا نائم – بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال : اقرأ. فقلت : ما أقرأ...الخ)) (4)

وسواء أتم الاتفاق على وجود نمط من ديباج مكتوب أم لا ، وسواء أُحُددت طريقة الوحي أم بقيت مجرد تصور يختلف باختلاف الذهنيات ، فإن الذي يمكن أن يُلْقي بعض الضوء على هذه المسألة هو الفعل" اقرأ" الذي لا يجوز أن يحصر معناه اللغوي في النطق بالمكتوب والمطالعة  ، فقد جاء في " القاموس المحيط" للفيروز أبادى أن القارئ والمتقرئ تعني أيضا الناسك والمتعبد " و تقرا تفقه وقرأ عليه السلام أبلغه ..."

فلماذا لا يكون المقصود بقوله " اقرأ باسم ربك " هو تنسك وتعبد باسمه أو أبلغ وبشر به ، مما يناسب تماما مقام التحنث أي التعبد في غار حراء  بعيدا عن تهجي الحروف ؟

و هل يجوز بعد ذلك القول إن وصف الرسول بالأمي لا علاقة له بالأمية الأبجدية أي جهل  القراءة والكتابة ، وإنما المراد أنه ينتمي إلى أولئك القوم من الأميين الذين لم يكن بين أيديهم كتاب منزل يفاخرون به غيرهم ، و يتصدون به لتوراة اليهود وإنجيل النصارى؟

والمعروف عن اليهود- أيضا- أنهم كانوا يسمون غيرهم من الأمم " جوييم" بالعبرية. ومن ثم فإن الذي ليس يهوديا فهو " أممي " أو " أمي" من " أمة " نظرا لأن النسبة في اللغة العربية تكون إلى المفرد لا إلى الجمع .

فأما الأمي بمعنى الذي يجهل القراءة والكتابة فهو منسوب إلى الأم لأن الطفل حالة ولادته منها لا يعرف القراءة والكتابة ، ولا يتمكن من اكتسابهما إلا بعد أن يستقل عن أمه  ويعمد  إلى التعلم والتمرن.

ولقد سَهُل أن ينسحب هذا المعنى على العرب لأن النسبة الكبيرة منهم لم يكونوا يعرفون القراءة

 والكتابة ، فانزرع في الأذهان وتردد على الألسنة حتى صار بمثابة الحكم الذي لا راد له . إلا أن ما يصدق على عامة الناس لا يصدق على خاصتهم . واليقين أن صاحب الدعوة الإسلامية لم يكن من العامة .

 

 

              إحالات :

     ( 1)،(2): مصادر الشعر الجاهلي و قيمتها التاريخية-تأليف ناصر الدين الأسد-    ط 6 : دار   المعارف

ص: 45،46

     (3)،(4) : في ظلال القران – سيد قطب- المجلد السادس ط: 10 –   دار الشروق- 1982   ص: 35،   36.

 

 

 

 

 

مظــاهــــر التمييــــز

 

      في خضم الصراع بين أنصار الدعوة الإسلامية وأعدائها، ظهر التمييز أولا بين المسلمين والمشركين أو الكفار.وظهر معه التمييز أيضا بين العرب الأميين الذين لا كتاب لهم وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

ويبدو أن الصراع بين المسلمين والمشركين كان أشد منه بينهم وبين أهل الكتاب . وكثيرا ما يتصور الدارس أن الصراع كان مواجهة عنيفة في الطرف الأول بينما كان يحتد على مستوى الخلافات الفكرية والجدل والنقاش. في الطرف الثاني .

والواقع أن الإسلام منذ البداية أبدى احتراما واحترازا تجاه الديانتين اليهودية والمسيحية.فقد اعترف بهما ديانتين سماويتيْن ولكن أصابهما التحريف فلم يبق لهما حق القيادة والسيادة.

والانقسامات القبلية التي عرفها العرب قبل الإسلام، أدت بدورها إلى إقامة التحالفات والتكتلات ولم تكن هذه الأخيرة مبنية على أسس دينية في كل الأحوال.

ففي المدينة مثلا: كان "بنو قينقاع" و"بنو النضير" من اليهود، حلفاء الخزرج بينما كان يهود بني قريظة حلفاء الأوس.

والدعوة الإسلامية هي الأخرى استغلت هذه الخلافات وأقامت تحالفات. واتفق الرسول مع يهود المدينة على الهدنة . ولكن سرعان ما تغيرت الأوضاع فيما بعد و تفككت التحالفات، وهو أمر يشذ عن قاعدة التكتيك السياسي.

تم ظهر تمييز آخر بين البدو والحضر. فالبدو أكثر جفاء وغلظة بينما أهل المدينة ألطف أخلاقا.

(( ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادى لم يبعث الله منهم رسولا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى"))(1)

وجاء في آية أخرى: (( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على الرسول ، والله عليم حكيم))( سورة التوبة الآية : 98)

وواضح من هذا التمييز أن البدو كانوا أكثر محافظة على العادات والأعراف القديمة ولم ينساقوا بسهولة ويسر وراء الدعوة الجديدة.

ولكن هذا لا يعني أن أهل المدينة انساقوا بسهولة . ولكن الحاصل أن هؤلاء كانوا أكثر تنورا

 وتفتحا بفعل الاختلاط والتجوال وبفضل نيلهم حظا أوفر من الثقافة يسمح لهم بالانسلاخ من القديم وبالمناقشة المتأدبة.

ولعل كثيرا من الحقد الذي ساد ويسود بين المسلمين واليهود يعود إلى أن اليهود كانوا أصحاب تجارة وإطلاع ليس على أصول الدينيات وحسب، ولكن على معارف أخرى مما كان يسمح لهم بإطالة الجدال وخوض المعارك الفكرية ضد المسلمين . ولم يكن اليهود ينطلقون من موقع الند للند، بل كانوا يروْن أنهم الأصل ويحملون الحقيقة ويستخدمون من الحجج المنطقية ليزعجوا خصومهم أحيانا .

وبتطور الأحداث ازدادت الأمور تعقيدا ، واتخذ التمييز أبعادا جديدة وصار المسلمون يختلفون في تفسير الآية:

(( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم و رضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم)) ( سورة التوبة الاية :101)

(( وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم  السابقون من المهاجرين والأنصار . فقيل ..هم الذين هجروا و نصروا في بدر وقيل : هم الذين صلوا للقبلتين. وقيل هم أهل بدر. و قيل هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديْبية.وقيل هم أهل بيعة الرضوان...))(2)

هذه الأقوال التي تعددت في تأويل آية واحدة، لم تتعددْ عرضا . وقد تبدو لكثيرين اليوم مسألة لا تستدعي أكثر من أن يقال إن المفسرين يتفاوتون من حيث إمكاناتهم المعرفية. وخلافاتهم ستظل ثانوية ما داموا يذيلون جميعا شروحهم بقولهم " و الله أعلم".

إن المسألة ليست بهذه البساطة إطلاقا، لأنها تتعلق بمراتب في سلم الاجتماعي . وأعلى مرتبة في هذا السلم هي الاستيلاء  على السلطة .

ولذلك فإن أبا بكر لم يتردد في توظيف هذه الآية يوم نشب الخلاف بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعده حين قال :

(( أيها الناس نحن المهاجرين أول الناس إسلاما ، وأكرمهم أحسابا ، وأوسطهم دارا ،وأحسنهم وجوها ، وأكثرهم ولادة في العرب ،وأمسهم رحما بالرسول الله ..أسلمانا قبلكم وقَدَمنا القرآن عليكم ،فقال تبارك وتعالى : " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين أتبعوهم )) (3)

وقد بينت الوقائع التاريخية فيما بعد أن الأمر آل كله إلى المهاجرين دون الأنصار. وتعاقب على خلافة المسلمين في أعز أيامها أي في صدر الإسلام خلفاء كلهم من المهاجرين تحقيقا لرأي أبي بكر الذي كان واضحا وحاسما منذ البداية حين واجه الأنصار قائلا : "فمنا الأمراء ومنكم الوزراء ."

وأخيرا استغل الأمويون – وقد كانوا حزبا قويا قبل الإسلام -  وجود عثمان بن عفان في السلطة لينقلبوا على الخليفة الشرعي "علي بن أبي طالب " ويؤسسوا لخلافة وراثية تعيد لهم أمجادهم الضائعة وتنسف مبدأ الشورى من أساسه.

إحالات :

 

(1)              : في ظلال القرآن – سيد قطب – دار الشروق –الطبعة  الشرعية العاشرة – 1982 –ص : 1700 .

(2)              : نفسه : ص : 1703

(3)              : القرآن والدولة – د. محمد أحمد خلف الله –المؤسسة العربية للدراسات    والنشر – الطبعة الثانية – 1981 – ص :108 .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الاسترقـاق في الميــزان

المعروف أن الإسلام لم يتخذ موقفا صارما تجاه الاسترقاق . فليس فيه نص صريح لا بالتحليل ولا بالتحريم ، رغم أن الدين الإسلامي يرتكز على أسلوبيْ الأمر والنهي في معالجة القضايا الاجتماعية

وما دام الموقف على هذه الدرجة من المرونة الزئبقية ،فقد كان على المسلمين أن يجهدوا ليخرجوا من ورطة التناقض هذه بسلام . فلم يناقشوا الموقف من الناحية المبدئية ، بل راحوا يبحثون عن تبريرات لهذا الموقف . فقالوا :

- إن الإسلام وجد الاسترقاق نظاما سائدا بين الأنظمة والمجتمعات يومئذ ، ولو أنه اتخذ موقفا حاسما يمنع به الاسترقاق منعا قاطعا لأَحدث هزة اجتماعية قد يصعب علاجها . وما لجأ إلى الإصلاح التدريجي لهذا المرض إلا يتماشيا مع الفطرة البشرية وطاقتها المحدودة .

- ثم إن الحروب كانت تجعل الاسترقاق أحد قوانينها . وما كان للمسلمين – وهم في حرب – أن يتخلوا عن حق من حقوقهم في التعامل مع العدو .

- ولو أن الإسلام منع الرق دفعة واحدة لتعرض نسل الأرقاء إلى الضياع فمن الذي سيكلفهم ويحفظ كرامتهم ؟

 وأجاز الإسلام للرجل أن يتزوج من الأَمَة أو يتسرى بها (أي يربط معها علاقة جنسية بدون زواج ) ، لأن ذلك من شأنه أن يلبي لها حاجة غريزية فطرية وقد يكون خطوة أولى في طريق تحريرها .

النص الإسلامي – لم يقل "لا" ولم يقل " نعم " بل وقف بين بيـن وهذا من خصائص الوسطية الزئبقية التي تريد أن ترضي عدة أطراف ولو كانت متناقضة.

وهذا الموقف التوفيقي يعني بوضوح أن النص الإسلامي كان محكوما بمرحلة تاريخية لا يستطيع منها فكاكا ، وإن صلاحيته لكل زمان ومكان إنما هي في الواقع صلاحية أقوال ذوي الرأي والاجتهاد لا غير .

فأما القول بأن الإسلام لم يمنع الاسترقاق منعا فوريا مباشرا تجنبا لما يمكن أن يحدث من هزات اجتماعية خطيرة ، فهو رأي لا أساس له إذ إن الإسلام نفسه يعده أهله هزة اجتماعية ربانية لم يحدث مثلها من قبل وسوف لا يقع مثلها من بعد .

والمفروض أن من يخاف الهزة الاجتماعية ، لا ينبغي له أن يدعي فوق ما يطيق. ولا يدعي امتلاك الحل النهائي والبلسم الشافي لكل الأمراض . ناهيك عن الهزات المتتالية التي عرفها المجتمع الإسلامي منذ فجر الدعوة ( حادثة السقيفة ،حروب الردة ، معركة الجمل ، حرب صفين ..الخ)

ومن العجب أن يخاف الإسلام على ضياع نسل الأرقاء فلا يقطع بتحريم الرق . وهو الذي جاء ليقيم دولة العدالة والمساواة ولينشئ بيتا تجمع فيها الأموال وتوزع على المسلمين .

قد يقال إنه عند ظهور النص القرآني لم تكن الدولة قد تأسست بعد . إلا أنه قول مردود ، إذ لا يُعْقل أن يجهل النص الغاية التي جاء من أجلها .فضلا عن كونه نصا ليس ككل النصوص .

  وأما قضية الزواج والتسري بالإماء فيُسْتحسن الوقوف عندها من خلال الآية المعروفة:

(( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. ذلك أدنى ألا تعدلوا )). "سورة النساء " .

وتعليلهم السماح بالزواج والتسري مبني – كما سبق القول – على كونهما يلبيان الغريزة الفطرية ويحفظان كرامة المرأة . وقد تصبح أم ولد في حالة الزواج وأم ولد أيضا في حالة التسري إذا اِعْتُرف بولدها، أي بنسبه.

أولا : العدل الذي تشترطه الآية لا يخص الإماء ، وإنما هو محصور في النساء الحرائر . فإذا أراد الرجل أن يجمع بين أربع نساء من هذا النوع فيجب عليه أن يعدل . فإن لم يستطع فعليه أن يكتفي بواحدة وله الحق في أن يتزوج أو يتسرى بغيرها من الإماء بالعدد الذي يشاء.

ثانيا : لم يكن على الرجل أن يتزوج من الأمَة أو يعترف بنسب ولدها إليه بفعل التقاليد والأعراف من جهة ، ولأن زواجه منها سيوقعه في حكم الآية ويصبح مجبرا على التقيد بشروطها ، إذا افترضنا أن المسلمين كانوا يسهرون – حقا - على تطبيقها تطبيقا صارما لا تساهل فيه .

ثالثا : يرى أقطاب المسلمين أن الإسلام لم يحلل ولم يحرم الاسترقاق ،  لكنه أراد تجفيف ينابيعه بصورة تدريجية عن طريق الكفارات مثلا :

( القتل الخطأ، كفارة اليمين، كفارة الظهار...)

ولكن المعروف أن عتق الرقبة هو واحد من الاختيارات المطروحة أمام صاحب الكفارة وليس الاختيار الوحيد.

ولهذا فإن الكفارة – حتى بالنسبة للمؤمن الذي يطبق الشريعة الإسلامية تطبيقا حرفيا صارما – قد تكون أحد العوامل المشجعة على عتق الأرقاء . وليس ملزما بهذا الخيار.

رابعا : يمكن القول إن الإسلام لم يضع حدا نهائيا لظاهرة الاسترقاق لا على مستوى النصوص وهي مسألة مبدئية، ولا في واقع التاريخ العربي الإسلامي .

وكان موقفه الفضفاض من هذه القضية سلاحا ذا حدين أستغله ذوو الجاه والمال والسلطان وكرسوا عملية الاسترقاق ، فكان العبيد والجواري منذ أواخر العهد الراشدي وقبله يعدون بالآلاف في بلاط الخليفة وحده .

خامسا : يقول سيد قطب :

(( فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك ، فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي ، شيئا فشيئا ، وهذه حقيقة . ولكن مبادئ الإسلام ليست هي  المسؤولة عنه ...ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه ، قليلا أو كثيرا ))(1)

الواقع أن التناقض قائم منذ الانطلاقة . إذ في الوقت الذي دعا فيه الإسلام إلى الإصلاح التدريجي للقضاء على الاسترقاق ، انتشرت حمى الفتوحات ، وفي جو الحروب المتكررة وفي ظل أنظمة أصبحت علاقتها بالإسلام شكلية ، تغلب حب امتلاك العبيد والجواري على الترغيب الخلقي الإصلاحي في عتق الأرقاء .

ويظهر التناقض أيضا في القول بأنه لا يجوز وليس من الصحيح الحكم على المبادئ الإسلامية من خلال ممارسات انحرفت عن الإسلام .

وهذا رأى صحيح ولكن معظم القائلين به لا يأخذون به عندما يتعلق الأمر بنظريات أخرى.

وإذا ما أخذنا الاشتراكية مثالا – لأنها الاتجاه المرفوض – عند هذا الفريق – فإنهم دائما يحكمون عليها من خلال ممارسات لا علاقة لها بالاشتراكية إطلاقا . ويكفي أن يطالع القارئ كتاب يوسف القرضاوي ( الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا ) ليتبين مدى الخلط الكبير الموجود بين القومية والليبرالية والاشتراكية والشيوعية ...الخ .

كما يظهر التناقض عندما يتعلق الأمر بالتاريخ العربي الإسلامي .إذ تجدهم يعترفون ويلحون على أنه ليس من الصواب الحكم على المبدأ الإسلامي من خلال ممارسات الأشخاص ، ومع ذلك لا يعترفون أن الخليفة "عثمان بن عفان" شخص ارتكب أخطاء كثيرة سمحت لأهله من بني أمية أن يحرفوا الإسلام عن مجراه الأول . وهم يستنكفون ويرفضون أن يسموا الأتراك مستعمِرين ( بكسر الميم ) و"سيد قطب" نفسه يستخدم صفة المجتمع الإسلامي رغم أن الإسلام لم يبْقَ سوى ستار. ومع العلم أن مجتمعا ما ، لا يستحق صفة الإسلامي ، إلا إذا هو جمع بين النظرية والممارسة كما يؤكد ذلك  " سيد قطب " ذاته .

 

 

إحالات :   

(1)  : في ظلال  القرآن – سيد قطب – دار الشروق – الطبعة الشرعية العاشرة   – الجزء الأول –ةص : 230 ،231 .

 

 

                                                                                    

 

 

 

 



 

      

 

 

 

 

 

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article