الاقتصاد السلعي والعمل المأجور-(troisiéme partie)
الاقتصاد السلعي والعمل المأجور-
روزا لوكسمبورغ
المحور: الارشيف الماركسي
Troisiéme partie
-----
القسم الثاني: العمل المأجور
1-
يتم تبادل جميع السلع تبعا لقيمتها، أي تبعا للعمل الضروري اجتماعيا المبذول في سبيلها. فإذا كان المال يلعب دور الوسيط فإنه أمر لا يغير شيئا من أساس التبادل هذا: المال ليس سوى التعبير عن العمل الاجتماعي وحجم القيمة الموجودة في كل سلعة يتم التعبير عنه بواسطة كمية المال التي تباع السلعة بها. على أساس قانون القيمة هذا، تهيمن مساواة تامة بين البضائع في السوق. وكان من الممكن أن تهيمن أيضا مساواة تامة بين بائعي السلع لو لم يكن ثمة بين ملايين السلع المختلفة المتبادلة في السوق، سلعة ذات طبيعة مختلفة كليا: قوة العمل. يحمل هذه السلعة إلى السوق أولئك الذين لا يملكون أدوات إنتاج تمكنهم من إنتاج سلع أخرى. ففي مجتمع يقوم على أساس تبادل السلع لا يتم الحصول على شيء إلا عن طريق التبادل. والذي لا يأتي بسلع، لا يمتلك وسيلة للعيش. فالسلعة هي العنصر الوحيد الذي يجعل الإنسان قادرا على الحصول على حصة من الناتج الاجتماعي، حصة تحدد السلعة مقياسها في الوقت نفسه. وكل إنسان يحصل عبر سلعة يختارها على حصة تتساوى مع كمية العمل الضروري اجتماعيا الذي قدمه هو بدوره على شكل سلعة. إذن فكل إنسان بحاجة إلى الإتيان بسلعة وبيعها، لكي يعيش، حيث أن إنتاج السلع وبيعها، صار هو شرط الوجود الإنساني. وفي سبيل إنتاج أية سلعة من السلع يحتاج الأمر إلى وسائل عمل، إلى أدوات، إلى مواد أولية، ومكان عمل، وإلى مشغل يتمتع بالشروط الضرورية للعمل والإضاءة الخ، وأخيرا يحتاج الأمر إلى كمية من الغداء يعتاش بها المرء خلال الزمن الذي ينتج فيه وحتى اللحظة التي فيها يبيع سلعته. فقط هناك بضع سلع قليلة للغاية وغير ذات أهمية من الممكن إنتاجها بدون أدوات إنتاج، كالفطر والحشائش التي تلتقط من الغابة، وكالأصداف التي يمكن جمعها على الشواطئ. وحتى هنا يحتاج الأمر إلى أدوات إنتاج كالسلاسل على سبيل المثال، كما يحتاج إلى مؤن تتيح للمنتج أن يعيش خلال قيامه بالعمل، أما معظم السلع فإنها تتطلب نفقات كبيرة، ضخمة أحيان، على شكل أدوات إنتاج في كل مجتمع يعيش على الإنتاج السلعي المتطور، أما ذاك الذي لا يمتلك أدوات إنتاج ولا يستطيع إنتاج سلع، فلا يبقى أماه إلا أن يحمل نفسه، أي قوة عمله الخاصة، كسلعة يعرضها في السوق.
ومثل جميع السلع الأخرى من الواضح أن للسلعة لمسماة «قوة العمل» قيمة محددة. فقيمة كل سلعة تحددها قيمة العمل الضروري لإنتاجها. ومن أجل إنتاج سلعة «قوة العمل» ثمة كمية محددة من العمل ضرورية على السواء، هي العمل الذي ينتج الغذاء والملبس وغيرهما للعامل. إن قوة عمل شخص ما تساوي ما يحتاجه الأمر إلى عملٍ للإبقاء عليه في حالة عمل دائم، أي لتغذية قوة عمله. إذن فقيمة سلعة «قوة العمل» تتمثل في كمية العمل الضروري لإنتاج وسائل عيش العامل. ثم، وكما هو الأمر بالنسبة إلى كل سلعة أخرى تترجم قيمة قوة العمل في السوق بسعرٍ محددة، أي بمال. وهذا التعبير المالي، أي سعر سلعة «قوة العمل»، يسمى الأجر. بالنسبة إلى كل سلعة أخرى، نعرف أن السعر يرتفع إذا ما زاد الطلب على العرض، وهو ينخفض إذا ما حدث على العكس من هذا إذا زاد العرض عن الطلب. والشيء نفسه فيما يتعلق بسلعة «قوة العمل»: فحين يزداد الطلب على العمال، تنحوا الأجور إلى الارتفاع، وإذا ما تقلص الطلب، أو إذا ازدحم سوق العمل بسلع طازجة، تنحو الأجور إلى الانخفاض. وأيضا كما هو الحال بالنسبة إلى كل سلعة أخرى، ترتفع قيمة قوة العمل، وبالتالي سعرها، إذا ما تطلب كمية العمل الضروري لإنتاجها، أي أدوات العيش، كمية أكبر من العمل من أجل إنتاجها. وفي مقابل هذا نجد أن كل اقتصادٍ يقوم على العمل في صناعة وسائل عيش العمال يؤدي إلى انخفاض في قيمة قوة العمل، وكذلك في سعرها، أي في الأجر. في العام 1817 كتب ريكاردو: «خفضوا من كلفة إنتاج القبعات وسترون كيف أن سعرها سينخفض ليصل إلى مستواها الطبيعي، وحتى لو تضاعف الطلب عليها مرتين أو ثلاثا أو أربعا. خفضوا من كلفة الإنفاق على الناس عبر تخفيض السعر الطبيعي للمؤن وللملابس الضرورية للعيش، وسترون أن الأجور ستنخفض حتى ولو تزايد الطلب على العمال بشكل كبير».
إن السلعة المسماة «قوة العمل» لا تختلف في شيء عن السلع الأخرى المعروضة في السوق، باستثناء كونها لا تنفصل عن بائعها العامل وباستثناء كونها لا تحتمل الانتظار فترة طويلة قبل أن يأتي من يشتريها، وذلك لأنها ستتلف مع حاملها، العامل، بسبب افتقارها للمؤن، هذا بينما يمكن لمعظم السلع أن تنتظر زمنا قبل أن تُباع. إذن فخصوصية سلعة «قوة العمل» لا تبرز في السوق حيث تكون قيمة التبادل وحدها هي التي تلعب دورا. فتلك الخصوصية تكمن في القيمة الاستعمالية لتلك السلعة. فكل سلعة تشتري بسبب المكاسب التي يعود بها استخدامها على مشتريها. فالمرء يشتري الأحذية ليحافظ على قدميه ويشترِ القدح ليشرب الشاي. فبماذا يمكن لقوة العمل التي تشتري أن تفيد؟ إنها، بداهة، تفيد في العمل. على هذا لا نكون قد تقدمنا خطوة. ففي كل الأزمان استطاع الناس أن يعملوا واضطروا للعمل، وذلك منذ وجود الخليقة، ومع هذا مرت ألوف السنين كانت فيها قوة العمل مجهولة تماما بوصفها سلعة. ولنتخيل للحظة أن الإنسان بكل ما يتمتع به من قوة عمل عاجز عن إنتاج وسائل عيش إلا لنفسه، في مثل هذه الحالة يكون الشراء مثل قوة العمل هذه، أي تكون قوة العمل على شكل سلعة، غير ذات معنى على الإطلاق. وذلك لأنه إذا اشترى أحدُ ما قوة العمل ودفع ثمنها، ثم جعلها تشتغل بواسطة أدوات إنتاجه الخاصة، ثم بعد هذا لم يحصل على نتيجة تزيد ما يمكنه به أن يقيم أود حامل السلعة المشتراة، أي العامل، فإن هذا سيعني أن العامل حين باع قوة عمله، حصل على أدوات إنتاج تخص الآخر، واشتغل بها لنفسه. ولسوف يكون الأمر كله أمرا عبثيا من وجهة نظر تبادل السلع تماما كما يحدث حين يشتري أحدٌ أحذية ثم يقدمها هدية للإسكافي. فإذا كانت قوة العمل البشري لا تسمح بأي استخدام آخر، لن يكون منها أي مكسب للمشتري وبالتالي لن يمكنها أبدا أن تعتبر سلعة. وذلك لأن المنتجات التي تحمل مكاسب هي وحدها التي يمكن اعتبارها سلعة. ولكي يمكن لقوة العمل أن تكون سلعة، لا يكفي أبدا أن يتمكن الإنسان من العمل حين يعطي وسائل الإنتاج بل ينبغي عليه أن يكون قادرا على الاشتغال بأكثر مما هو ضروري لعيشه الخاص. ينبغي أن يتمكن من العمل أكثر ليفيد ذاك الذي اشترى قوة عمله. وينبغي على سلعة «قوة العمل» أن تعوّض، عبر استخدامها، أي عبر عملها، ما دُفع فيها، أي الأجر، وأن تمكن المشتري من الحصول على فائض عمل. والحقيقة أن لقوة العمل هذه الخصوصية. ولكن ما معنى هذا؟ هل هي خصوصية طبيعية يمتلكها الإنسان أو العامل تلك التي تمكنه من توفير فائض عمل؟ حسنا... في العصر الذي كان يحتاج فيه الإنسان إلى عام بأكمله لكي يصنع فأسا من الحجارة ولأشهر عديدة لكي يصنع قوسا، أو لأن يخلق فيه النار بواسطة قطعتين من الخشب يحكهما على بعضهما البعض خلال ساعتين من الزمن، كان غير ممكن لأعتى المقاولين وأكثرهم مخادعة وأقلهم ضميرا أن يجعل الإنسان قادرا على تحقيق أي فائض عمل. إن ثمة ضرورة لمستوى معين في إنتاجية العمل لكي يمكن للإنسان أن يحقق فائض عمل، إذ ينبغي أن تكون الأدوات والمهارة والمعرفة والسيطرة على قوى الطبيعة قد وصلت بالفعل إلى مستوى كاف لجعل قوة الإنسان قادرة على إنتاج وسائل العيش الضرورية له وحده وحسب، بل لآخرين أيضا. أما تحسن الأدوات والمعرفة والسيطرة على الطبيعة فإنها أمور لا تكتسب إلا عبر تجارب أليمة وطويلة العهد واجهها المجتمع الإنساني. إن المسافة الزمنية التي تفصل بين أول الأدوات الحجرية المقصوصة كيفما اتفق، واكتشاف النار من وجهة، وبين الآلات البخارية والكهربائية التي تعرفها اليوم، هي مسافة التطور الاجتماعي للبشرية، تطورٌ لم يكن ممكنا إلا داخل المجتمع، عبر العيش سويا والتعاون بين البشر. إن إنتاجية العمل هذه التي تعطي لقوة عمل العامل المأجور في عصرنا، خصوصية تحقيق فائض العمل، ليست في الحقيقة خصوصية فيزيولوجية وُلدت مع الإنسان، بل هي ظاهرة اجتماعية وثمرة تطور طويل وما فائض عمل سلعة «قوة العمل» سوى اسم آخر لإنتاجية العمل الاجتماعي التي تجعل عمل شخص ما قادرا على إعالة عدة أشخاص آخرين.
إن إنتاجية العمل، ولاسيما حينما تكون الشروط الطبيعية مساندة لها عند مستوىً بدائيا من مستويات الحضارة، لا تؤدي وأبدا إلى بيع قوة العمل وإلى استغلالها رأسماليا. ولننظر على تلك المناطق الاستوائية في أمريكا الوسطى والجنوبية التي كانت منذ اكتشاف أمريكا وحتى الآن بداية القرن التاسع عشر مستعمرات اسبانية، إنها مناطق ذات مناخ حار وتربة خصبة يعتبر فيها الموز الغذاء الأساسي للسكان. ويكتب هامبولدت «إنني أشك في أن يكون ثمة وجود في أي منطقة أخرى من العالم لنبتة تنتج كل هذه الكمية من المادة الغذائية في مثل تلك المساحة الصغيرة من الأرض». ويحسب هامبولدت «إن نصف هكتار مزروع بالموز الفاخر، وبامكانه أن ينتج غذاء لأكثر من خمسين شخصا، بينما نجد في أوربا أن نصف الهكتار نفسه بالكاد يعطينا 576 كلغ من الطحين خلال العام الواحد- وهي لا تكتفي لتغذية شخصين». بيد أن الموز لا يتطلب سوى القليل من العناية، إذ حسب زارعيه أن يقبلوا الأرض مرة أو مرتين حول جذوره. ويتابع هامبولدت «عند سفح جبال اكورديلير في وديان فبراكروز وفالا دولبيد وغوار البحار الرطبة، يمكن لإنسان لا يكرس للأمر سوى يومين من العمل السهل في الأسبوع، يمكن له أن ينتج مؤنا تكفي عائلته بأسرها». ومن الواضح أن إنتاجية العمل في ذاتها تسمح هنا بعملية استغلال جيدة، وثمة عالِمٌ ذو روح رأسمالية حقيقية هو مالتوس يصرخ باكيا أمام وصف هذه الجنات الأرضية: «آه يا لها من وسائل هائلة لإنتاج ثروات لا تُنضب»! وبكلمات أخرى أي منجم ذهب في هذا العمل الذي يقوم به آكلو الموز، أي منجم سيتمتع به المقاولون الشجعان لو كان بوسعهم أن يدفعوا هؤلاء الكُسالى إلى العمل! الحقيقة أن سكان تلك المناطق لم يفكروا أبدا في إهلاك أنفسهم من أجل جمع المال، بل كانوا يكتفون بمراقبة الأشجار بين وقت وآخر وأكل موزها بشهية طيبة بينما يمضون بقية وقتهم في الشمس ينعمون بمتع الحياة. ويقول هامبولدت بشكل منهجي: «في المستعمرات الاسبانية تُسمع غالبا أقوالٌ تؤكد بان سكان المنطقة الاستوائية لن يخرجوا أبدا من حالة الخمول التي يعيشون فيها منذ قرون، طالما أن الملك لم يصدر أمره بعد بانتزاع جميع أشجار الموز». وهذا «الخمول»، من وجهة نظر الرأسمالية الأوربية، هو بالتحديد الحالة الذهنية لتلك الشعوب التي لا تزال تعيش في المشاعية البدائية، حيث تقتصر غاية العمل الإنساني على سد الاحتياجات الطبيعية للإنسان، ولا تكون في مراكمة الثروات. وطالما ظلت تلك العلاقات قائمة، لن يكون بالامكان التفكير باستغلال أناس لأناس، مهما كان حجم إنتاجية العمل ولا باستخدام قوة العمل البشري من أجل إنتاج فائض العمل.
لم يكن المقاول الحديث أول من اكتشف خاصية قوة العمل هذه فمنذ العصور الغابرة لم تكف عن مشاهدة استغلال الذين لا يعملون لفائض العمل. فالعبودية في العصور القديمة والقنانة في العصور الوسطى كانتا معا ترتكزان إلى مستوى الإنتاجية الذي كان قد تم الوصول إليه، وإلى قدرة العمل البشري على إعالة أكثر من شخصٍ واحد. فالاثنان ما هما سوى تعبير مختلف عن الأسلوب الذي به كانت طبقة في المجتمع تستفيد من تلك الإنتاجية بجعل طبقة أخرى تعيلها. وبهذا المعنى نجد أن العبد القديم والقن القروسطي هما جدّا العامل المأجور المعاصر. ولكن لا في العصور القديمة ولا في العصور الوسطى لم تصبح قوة العمل سلعة، على الرغم من إنتاجيتها ومن استغلالها. أما ما هو خاص في العلاقات الراهنة بين العامل المأجور والمقاول وما يميز هذا العلاقات عن العبودية والقنانة، فهو الحرية الشخصية التي يتمتع بها العامل. اليوم نجد أن يبع قوة العمل قضية خاصة بالإنسان، عملية طوعية وتستند إلى الحرية الفردية التامة. وشرطها أن يكون العامل إنسانا لا يملك أدوات إنتاج. فإذا كان يملك تلك الأدوات سيكون في وسعه أن ينتج بنفسه سلعا دون أن يضطر لبيع قوة عمله. إن الفصل بين قوة العمل وأدوات الإنتاج هو، إضافة إلى الحرية الشخصية، ما يجعل قوة العمل سلعة. في الاقتصاد العبودي ، لم تكن قوة العمل مفصولة عن أدوات الإنتاج، بل كانت تشكل بدورها أداة إنتاج وتخص المالك كجزء من ملكيته الخاصة، مثل الأدوات والمواد الأولية الخ. لم يكن العبد سوى جزء من كتلة من أدوات الإنتاج تخص مالك العبيد. في القنانة، تكون قوة العمل مرتبطة بأدوات الإنتاج، بالأرض القابلة للزراعة، أي لا تكون سوى أداة ثانوية من أدوات الإنتاج. فالجزيات والأعشار هنا لا يقدمها الأشخاص بل الأرض، فإذا تحولت الأرض إلى أيدي عمال آخرين عن طريق الوراثة أو عن أية طريق أخرى، فالوضع نفسه يكون وضع الأعشار.
اليوم صار العامل حرا بصورة شخصية، لم يعد ملكا لأحد ولم يعد ملحقا بأية أداة من أدوات الإنتاج. فاليوم صارت أدوات الإنتاج مملوكة لبعض الأيدي، وصارت قوة العمل مملوكة للأيدي الأخرى، والمالكان يتجابهان كمشتر وبائع حرين ومستقلين، البائع كمشترٍ، والعامل كبائع لقوة العمل. إن الحرية الشخصية والفصل بين أدوات الإنتاج وقوة العمل، لا يؤديان دائما إلى العمل المأجور وإلى بيع قوة العمل حتى ولو كانت إنتاجية العمل مرتفعة. ولقد رأينا مثلا على هذا في روما القديمة بعد أن طُردت جمهرة المزارعين الصغار الأحرار من أراضيها بفعل تشكل الملكيات الكبيرة للنبلاء الذين كانوا يستغلون العبيد. لقد ظلوا من الناحية الشخصية أناسا أحرارا، لكنهم بسبب عد امتلاكهم للأراضي، أي لأدوات الإنتاج، أخذوا يتدفقون على روما بوصفهم بروليتاريين أحرارا. وع هذا لم يكن في وسعهم بيع قوة عملهم لأنهم لو حاولوا لما وجدوا من يشتري، فالملاكون الأغنياء والرأسماليون لم يكونوا بحاجة لشراء قوة عمل حرة، لأنهم كانوا في الواقع عالة على عبيدهم. فعمل العبيد كان في حد ذاته كافيا للاستجابة لاحتياجات كبار الملاكين الذين كانوا يجعلون العبيد يصنعون لهم كل الأشياء الممكنة. ولم يكن بامكانهم أن يستخدموا قوة العمل إلا لما في شأنه أن يستجيب لحاجات حياتهم الخاصة وترفهم، وذلك لأن هدف الإنتاج الذي كان يقوم به العبيد كان الاستهلاك وليس بيع السلع. كان البروليتاريون الرومانيون غير قادرين على العيش بفضل عملهم، لذا لم يبق أمامهم إلا العيش بفضل التسول، ونيل صدقات الدولة، والتوزيع المنتظم للإعاشة. بدلا من العمل المأجور كانت روما القديمة تعيل الناس الأحرار المحرومين بفضل أموال الدولة. وهذا ما جعل عالم الاقتصاد الفرنسي سيسموندي يقول: «في روما القديمة كان المجتمع يعيل بروليتارية أما اليوم فإن البروليتاريين هم الذين يعيلون المجتمع». وإذا كان عمل البروليتاريين اليوم قصده إعالتهم وإعالة أشخاص آخرين، وإذا كان بيع قوة العمل قد صار ممكنا، فلأن العمل الحر صار الشكل الوحيد للإنتاج ولأنه بوصفه اقتصادا سلعيا، لم يعد هدفه الاستهلاك المباشر بل البيع. في الماضي كان مالك العبيد يشتري العبيد لراحته وترفه، وفي العصور الوسطى كان السيد كان السيد الإقطاعي ينتزع الأعشار والجزيات من الأقنان للغاية نفسها: أي لكي يعيش حياة رغده مع أهله. أم المقاول الحديث فإنه لا يجعل العمال ينتجون البضائع والملابس وأدوات الترف لاستهلاكه الخص، بل هو ويجعلهم ينتجون سلعا لبيعها مقابل المال. وهذا ما يجعل منه رأسماليا وفي العامل أجيرا.
إن بيع قوة العمل كسلعة، يفترض سلسلة العلاقات التاريخية والاجتماعية المحددة. فظهور سلعة «قوة العمل» في السوق يشير:
1- إلى أن العامل شخص حر.
2- إلى أنه مفصول عن أدوات الإنتاج وأن هذه الأدوات موجودة بين أيدي أولئك الذين لا يعملون.
3- إلى أن إنتاجية العمل صارت ذات مستوى مرتفع، بمعنى أن بامكانه أن تنتج فائض عمل.
4- وإلى أن الاقتصاد السلعي صار مهيمنا، بمعنى أن تحقيق فائض العمل على شكل سلع للبيع هو الهدف من شراء قوة العمل.
من وجهة نظر السوق يمكننا ان نقول بأن شراء وبيع سلعة «قوة العمل» مسألة عادية للغاية، تحدث ألوف المرات في كل لحظة، كما هو حال شراء الأحذية أو البصل. إن قيمة السلعة وتنويعاتها، سعرها وتأرجحاته، تساوي البائع والشاري في السوق واستقلالهما، والطابع الحر للصفقة – كل هذا يشبه تمام أية عملية شراء أخرى. ومع هذا فإن القيمة الاستعمالية الخاصة لهذه السلعة، والعلاقات الخاصة التي تخلقها قيمة الاستعمال هذه، يجعلان من هذه العملية اليومية التي يعرفها عالم السوق علاقة اجتماعية خاصة. وللنظر الآن إلى ما يترتب عليها.
إن المقاول يشتري قوة العمل وهو، مثل أي مشترٍ آخر، يدفع قيمتها، أي يدفع نفقات الإنتاج، حين يدفع للعامل سعرا هو الأجر الذي يقيم أود العامل. إن قوة العمل المشتراة قادرة، بمساعدة أدوات الإنتاج المستخدمة في المجتمع إنتاج ما يزيد عن نفقات الإعالة. وفي هذا يكمن شرط كل العملية التي، لولا هذا لما كان لها أي معنى على الإطلاق، وفي هذا تكمن القيمة الاستعمالية لسلعة «قوة العمل». وبما أن قيمة إعالة قوة العمل محددة، كما هو الحال بالنسبة لكل سلعة أخرى، بكمية العمل الضروري لإنتاجها، بإمكاننا أن نقر بان الغذاء والملبس الخ، يتطلبان، إذ يسمحان بإبقاء العامل يوميا في حالة القدرة على العمل، يتطلبان مثلا ست ساعات من العمل. إذن فإن سعر سلعة «قوة العمل»، أي الأجر، ينبغي أن يكون نقدا يوازي ست ساعات من العمل. غير أن العامل لا يشتغل ست ساعات من اجل سيده، بل هو يشتغل لفترة أطول، ولنفترض أنها 11 ساعة. في هذه الساعات الإحدى عشر يكون العامل قد رد لسيده ست ساعات هي قيمة الأجر الذي ناله، ثم أضاف إليها 5 ساعات من العمل الجاني يقدمها هدية لسيده. بمعنى أن يوم العمل لدى كل عامل يتألف من جزأين: جزء مدفوع يقوم فيه العامل وحسب بالتعويض على قيمة إعالته أي يشتغل لنفسه، وجزء غير مدفوع يقوم فيه بعمل مجاني أو بفائض عمل يستفيد من الرأسمالي.
كان الوضع مشابها لهذا الوضع بالنسبة إلى أشكال الاستغلال الاجتماعي السابقة. ففي عهد القنانة كان عمل القن لنفسه وعمله لسيده متميزين في الزمان وفي المكان. فالفلاح كان يعرف تماما وبأية كمية كان يشتغل لنفسه، ومتى وبأية كمية كان يشتغل لإعالة سيده النبيل أو رجل الدين. أولا كان يشتغل لبضعة أيام في أرضه الخاصة، ثم كان يشتغل لبضعه أيام أخرى في أرض السادة. أو أنه كان يشتغل صباحا في حقله وبعد الظهر في حقل السيد، أو أسابيع في حقله وبضعة أسابيع في حقل السيد. ففي قرية دير ماوروس مونستر في الألزاس كان هذا العمل في أواسط القرن الحادي عشر يحدد على الشكل التالي: منذ أواسط نيسان حتى أواسط أيار كانت كل عائلة فلاحية تقدم رجلا لثلاثة أيام في الأسبوع، ومن شهر أيار إلى عيد القدس يوحنا كانت تقدم بعد ظهر يوم واحد في الأسبوع. ومن عيد القديس يوحنا حتى أيام الحصاد كانت تقدم يومين في الأسبوع، أما أيام الحصاد نفسها فكانت تقدم ثلاث فترات بهد الظهر في الأسبوع، وفي عيد القدس مارتان حتى عيد الميلاد كانت تقدم ثلاثة أيام في الأسبوع. ومع نهاية العصور الوسطى، مع تطور نظام القنانة كانت أعمال السخرة تزيد بشكل كانت معه تلك الأعمال تجري في كل أيام الأسبوع وكل أسابيع السنة بحيث أن الفلاح كان لديه بالكاد وقت يعمل فيه لحسابه الخاص. وحتى في ذلك الحين كان الفلاح يعلم بأنه لا يشتغل من أجل نفسه فقط بل من أجل الآخرين. لم يكن الفلاح قادرا على رسم أوهام كثيرة حول وضعه.
في العمل المأجور المعاصر، يبدو الوضع مختلفا تمام الاختلاف. فالعامل الآن لا ينتج خلال الجزء الأول من يومه حوائج يحتاجها: الغذاء واللباس الخ. ثم ينتج بعد ذلك حوائج أخرى لسيده. إن عالم المصنع ينتج طوال النهار الشيء نفسه، شيئا لا يحتاجه هو نفسه إلا جزئيا أو لا يحتاجه على الإطلاق: رافعات من الفولاذ أو قطع من الكاوتشوك أو أقمشة من الحرير أو صفائح من الزنك الخ. في كتلتها غير المتميزة تشبه البضائع التي ينتجها العامل خلال النهار بعضها البعض بحيث لا يمكن للمرء أن يلاحظ أي فارق فيما بينها، كما لا يمكن لأحد أن يلاحظ أن جزءا منها يمثل عملا مدفوعا وجزءا يمثل عملا غير مدفوع، أو أن جزءا منها يخص العامل وجزءا آخر يخص السيد. بل على العكس من هذا لا يكون للإنتاج الذي يعمل فيه العامل أية فائدة بالنسبة إليه، وهو لا يمتلك أي جزء منه، إن كل ما ينتجه العامل يخص المقاول. وهنا يكمن فارق خارجي كبير بين العمل المأجور وبين القنانة. كان للقن قليل من الوقت يعمل فيه في حقله الخاص والعمل الذي كان يقوم به كان يخصه. أما في حالة العمل المأجور المعاصر فإن إنتاجه كله يخص السيد وعمله في المصنع يبدو غير ذي علاقة بإعالته. لقد تلقى العامل أجره وبإمكانه أن يفعل به ما يشاء. ومقابل هذا ها هو مجبر على القيام بالعمل الذي يطلبه منه سيده وكل ما ينتجه يخص هذا السيد. والفارق، الذي لا يراه العامل، يظهر في دفاتر حسابات السيد، حين يقوم هذا الأخير بحسبان مردود إنتاج عماله. وبالنسبة إلى الرأسمالي يكمن هنا الفرق بين مجموع المال الذي يقبضه بعد بيع المنتوج وبين النفقات التي يدفعها سواء مقابل أدوات الإنتاج أو على شكل أجور للعمال. أما ما يتبقى له كربح فهو القيمة التي يخلقها العمل غير المدفوع أي فائض القيمة التي ينتجها العمال. إن كل عامل ينتج في البداية ما يوازي أجره، وبعد ذلك ينتج فائض القيمة الذي يقدمه هدية للرأسمالي، حتى ولو كان لا ينتج غير قطع من الكاوتشوك وأقمشة حريرية وصفائح من الفولاذ. فإذا كان العامل قد حاك 11 مترا من الحرير في 11 ساعة، فإن 6 أمتار منها تشكل قيمة أجره فيما تشكل الأمتار الخمسة الباقية فائض القيمة الذي يناله سيده. إن للفارق بين العمل المأجور والقنانة نتائج أخرى بالغة. فالعبد أو القن كانا يقدمان عملهما من أجل احتياجات خاصة، من أجل استهلاك السيد، كانا ينتجان من أجله مؤنا وألبسة ومفروشات وأدوات ترفيه الخ. كان هذا هو نمط التعامل قبل أن تتدهور العبودية والقنانة وتتهاويا تحت تأثير التجارة. إن لإمكانيات الاستهلاك لدى الإنسان وحتى لترف الحياة الخاصة، حدودها في كل عهد. فمالك العبيد القديم ونبيل العصور الوسطى لم يكن في وسعهما أن يمتلكا أكثر من مخازن ملأى، واسطبلات حافلة، وثياب غنية وحياة مرفهة لهما ولمن يحيط بهما، ومنازل مفروشة بشكل جيد. وهما لم يكن في وسعهما أن يحتفظا بكميات احتياطية كبيرة من أدوات الاستخدام اليومية، إذ أنها سرعان ما تتلف: فالحبوب قد ينخرها السوس أو تأكلها الفئران والجرادين، واحتياطي الشعير والقش يحترق بسهولة، والملابس تتلف الخ. ناهيك عن صعوبة الاحتفاظ بمنتجات الحليب والفاكهة والخضار. كان للاستهلاك، حتى وسط حياة بالغة التبذير، حدوده الطبيعية في الاقتصاد العبودي والقني، وبالتالي كان لاستغلال العبد أو القن حدوده. لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى المقاول الذي يشتري قوة العمل من أجل إنتاج السلع. في معظم الأحوال، يبدو ما ينتجه العامل في المصنع غير مفيد لا له ولا لسيده. فهذا الأخير لا يجعله ينتج ثيابا أو غذاء له، بل يجعله ينتج سلعة لا يحتاجها هو نفسه، يجعله ينتج أقمشة حريرية أو صفائح أو توابيت يعمل سريعا إلى التخلص منها، أي إلى بيعها، بجعله ينتجها ليكسب منها مالا. وعلى هذا النحو ينال ما كان قد أنفقه. أي أن فائض العمل قد أُعطي له على شكل نقود. ولهذه الغاية أي لكي يحقق أرباحا نقدية بواسطة عمل العمال غير المدفوع، يقوم صاحبنا بهذه الصفقة ويشتري قوة العمل. بيد أننا نعرف أن المال هو وسيلة مراكمة الثروات غير المحدودة. والثروة، على شكل نقدي، لا تفقد شيئا من قيمتها حتى ولو خزنت لفترة طويلة من الزمن. بل على العكس من هذا وكما سوف نرى، من المعلوم أن الثروة المخزونة على شكل نقود تزداد قيمة مع الوقت.إن الثروة على شكل نقود لا تعرف أية حدود وقيمتها تزيد بما لا نهاية له. كذلك نجد أيضا أن ظمأ الرأسمالي المعاصر لفائض العمل ليس له حدود أيضا، وكلما زاد ما يكسبه بفضل عمل عماله غير المدفوع كلما كان الأمر أفضل بالنسبة إليه. انتزاع فائض القيمة، وانتزاعه بدون حدود، ذلكم هو هدف شراء قوة العمل ودوره.
إن توجه الرأسمالي الطبيعي نحو زيادة فائض القيمة التي ينتزعها من العمال يجد دربين بسيطين يقومان من تلقائهما، هذا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى الطريقة التي بها ينقسم يوم العمل. إن يوم العمل لدى كل عامل مأجور يتألف عادة من جزأين: جزء يعيد فيه العامل أجره، وجزء يقدم فيه عملا غير مدفوع الأجر، أي يقدم فيه فائض القيمة. والمقاول، في سبيل زيادة الجزء الثاني حتى الحدود القصوى، بإمكانه أن يسلك سبيلين: فإما أن يطيل من ساعات يوم العمل، وإما أن يقلص من الجزء الأول، أي من الجزء المدفوع من يوم العمل، بمعنى أن يخفض من أجر العامل. وعمليا نجد أن الرأسمالي يلجأ إلى الطريقتين، ومن هنا يتأتى اتجاه مزدوج في نظام العمل المأجور: اتجاه لتمديد يوم العمل، واتجاه لتقليص الأجور.
عندما يشتري الرأسمالي سلعة قوة العمل، يشتريها، مثل أية سلعة أخرى، بقصد تحقيق مكاسب عبرها. فكل مشترٍ لسلعة يسعى لتحقيق أكبر كمية ممكنة من الاستخدام من سلعته هذه. إن الاستخدام الكامل للسعة وكل ما تحققه من مكاسب أمران يخصان المشتري. إن للرأسمالي الذي اشترى قوة العمل، ومن جهة نظر شراء السلعة، الحق في الإصرار على أن تخدمه السلعةالمشتراة لأطول فترة ممكنة من الزمن: فإذا اشترى قوة العمل لمدة أسبوع، له الحق في استخدامها خلال الأسبوع، كما أن له الحق، من وجهة نظره كمشترٍ، في جعل العامل يشتغل 7 مرات الأربعة والعشرين ساعة التي يتألف منها اليوم، لو كان هذا بمقدوره، من جهة أخرى نجد أن للعامل وجهة نظر معاكسة، بوصفه بائعا للسلعة. صحيح أن استخدام قوة العمل أمر يخص الرأسمالي، غير أن هذا الاستخدام يجد حدوده في القوة الجسمانية والذهنية للعامل. فالحصان مثلا بوسعه أن يعمل 8 ساعات في اليوم دون أن يهلك. والإنسان ينبغي عليه لكي يستعيد القوة التي أنفقها في العمل، ينبغي عليه أن يحصل على فترة ما يتناول فيها غذاءه ويرتدي ملابسه ويرتاح قليلا الخ. فإذا لم يحصل على هذه الفترة لا يحصل لقوة عمله أن تهلك وحسب بل هي تتحطم أيضا. فالإفراط في العمل يضعف العامل ويقصر من أجله، فإذا حصل إن عمد الرأسمالي، بفعل استخدام غير موزون لقوة العمل إلى تقصير حياة العامل أسبوعين في الأسبوع الواحد، فإن الأمر يكون كما لو أنه يمتلك ثلاثة أسابيع من حياة هذا العامل مقابل أجر أسبوع واحد. ودائما من وجهة نظر تجارة السلع يعني هذا أن الرأسمالي يسرق العامل. وفيما يتعلق بطول يوم العمل، نجد أن الرأسمالي والعامل يدافعان في السوق، عن وجهتي نظر متعارضتين. أما الطول الفعلي ليوم العمل فإنه لا يتقرر إلا كمسألة توازن قوي عبر صراع يقوم بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة [71]. ليس ليوم العمل في ذاته حدودا محددة بدقة، فنحن نعثر، تبعا للعهود وللأماكن على أيام عمل من 8 و10 و12 و14 و16 و18 ساعة. إن يوم العمل محور صراع طويل الأمد. وفي هذا الصراع يمكننا أن نميز مرحلتين هامتين. تبدأ أولاهما منذ نهاية العصور الوسطى في القرن الرابع عشر حين كانت الرأسمالية تقطع أولى خطواتها الخجولة وتشرع في تحطيم سلاسل المنغلقات الحرفية. في العهد الأكثر ازدهارا للحرفية كان الزمن الاعتيادي للعمل اليومي يصل إلى عشر ساعات، أما أوقات الطعام والنوم والراحة وأيام الآحاد والأعياد فكانت تحتسب بشكل رحب ومريح. كانت تلك الأوقات كافية للحرفي القديم بمناهج عمله البطيئة، لكن وقت العمل لم يكن يكفي المؤسسات التي كانت قد بدأت تتخذ شكل مصانع.
كان أول ما انتزعه الرأسماليون من الحكومات قوانين ارغامية تتعلق بتطويل وقت العمل. فمنذ القرن الرابع عشر حتى نهاية القرن السابع عشر، نشاهد في إنكلترا كما في فرنسا وألماني، قوانين تتحدث عن يوم عملٍ أدنى، أي عن منع العمال من الاشتغال أقل من الفترة المحددة التي كانت في أغلب الأحيان تصل إلى 12 ساعة يوميا. كان النضال ضد كسل العمال يمثل الصرخة الكبرى منذ العصور الوسطى حتى القرن الثامن عشر، أي منذ تحطمت سلطة المنغلقات الحرفية القديمة وصار ثمة جماهير بروليتارية لم تعد تمتلك من أدوات العمل سوى بيع قوة عملها. ومنذ ولدت، من جهة أخرى، المصانع الكبيرة بإنتاجها الضخم، فمع حدوث ذلك كله كانت قد حدثت بالفعل انعطافة أساسية. لقد شُرع آنذاك في الضغط على العمال من كل الأعمار ومن الجنسين بشكل كان من القسوة بحيث أن شعوب العمال تزاحمت خلال سنوات قليلة وكأن ثمة طاعونا يدفعها. في العام 1863 صرخ نائب أمام البرلمان الإنكليزي قائلا: «لقد صار عمر صناعة القطن 90 سنة... هذه الصناعة التهمت خلال ثلاثة أجيال من العرق الإنكليزي، تسعة أجيال من عمال القطن [72]». وكتب مؤلف برجوازي إنكليزي يدعى جون وايد في كتابه «تاريخ الطبقة الوسطى والطبقة العاملة»: «إن شراهة سادة المصانع جعلتهم يرتكبون، في سعيهم وراء الربح، أعمال عنف وقسوة بالكاد تجاوزها الاسبانيون خلال غزوهم لأمريكا وأثناء بحثهم عن الذهب [73]».
في إنكلترا وفي ستينات القرن التاسع عشر كانت بعض فروع الصناعة، كصناعة القماش المخرم (الدانتيل)، تستخدم أطفالا في التاسعة أو العاشرة من عمرهم يعملون ابتداء من الساعة الثانية والرابعة صباحا حتى الساعة العاشرة والحادية عشر والثانية عشر مساءا. ونحن نعلم الوضع الذي كان يهيمن في ألمانيا في مصانع صب المرايا بالزنبق أو في المخابز كما في مصانع الثياب وصناعة الأدوات المنزلية. إن الصناعة الرأسمالية الحديثة هي أول من اخترع العمل الليلي. ففي جميع المجتمعات السابقة كان الليل يعتبر وقتا تكرسه الطبيعة لراحة الإنسان. لكن المشروع الرأسمالي اكتشف أن فائض القيمة المنتزع ليلا من العمال لا يختلف بشيء عن ذلك الذي ينتزع نهارا، وهكذا قُسم العمال إلى فرق ليلية وفرقٍ نهارية، كذلك كان حال أيام الآحاد التي، بعد أن كانت محترمة جدا أيام منغلقات العصور الوسطى، وقعت الآن ضحية للظمأ الرأسمالي لفائض القيمة وأُضيفت إلى أيام العمل الأخرى. ولقد كانت هناك عشرات الابتكارات الصغيرة الأخرى التي أتاحت تطويل يوم العمل: تناول الطعام أثناء العمل دون أي توقف، تنظيف الآلات بعد انتهاء العمل وخلال الوقت المخصص للراحة، وليس خلال وقت العمل العادي الخ.
إن هذه الممارسات التي قام بها الرأسماليون، ومورست بحرية دون أي وازع خلال العقود الأولى، جعلت من الضروري قيام سلسلة جديدة في التشريعات حول يوم العمل، والتشريعات هذه المرة لم تقم لتطويل يوم العمل بل لتقصيره. إن هذه البنود الشرعية الجديدة حول الديمومة القصوى ليوم العمل لم يفرضها ضغط العمال بقدر ما افترضتها في البداية غزيرة حب البقاء لدى المجتمع الرأسمالي. فلقد كان للعقود الأولى التي تلت ولادة الصناعة الكبرى آثارٌ مهلكة على صحة العمال وشروط حياتهم، بحيث أدت إلى نسبة وفيات هائلة وإلى تشويهات جسدية وإلى آثار أخلاقية وأمراض مُعدية وإلى عجز الكثيرين عن تأدية الخدمة العسكرية بحيث بدا وجود المجتمع نفسه مهددا في جذوره [74]. ولقد كان واضحا إنه إذا لم تعمد الدولة إلى وضع لجام في وجه اندفاعة الرأسمال الطبيعية باتجاه فائض القيمة، فإن هذا الفائض من شأنه أن يحوّل، على مدى طويل أو قصير، دولا بأسرها إلى مقابر جماعية، لن يعود أحد يرى فيها سوى عظام العمال. بدون عمال لن يكون ثمة استغلال للعمال. لذا كان على الرأسمال، ومن أجل صالحه الخاص ومن أجل تمكينه من استغلال العمال في المستقبل، كان عليه أن يفرض بضعة حدود على الحجم الراهن للاستغلال. كان من الضروري توفير قوة الشعب بعض الشيء من أجل ضمان استمرار استغلاله. وكان من الضروري التحول من اقتصاد نهبٍ لا مردود إلى استغلال عقلاني. ومن هنا ولدت أول القوانين المتعقلة بيوم العمل الأقصى، كما ولدت كل الإصلاحات الاجتماعية البرجوازية. كانت قوانين الصيد نموذجا لهذا الوضع، فتماما كما أن القوانين قد حددت وقتا معينا للعيد بهدف جعل العصافير تتكاثر لكي يسهل صيدها بانتظام. كذلك جاءت الإصلاحات الاجتماعية لتسهل فترة من الراحة لقوة عمل البروليتاري لكي يمكنه أن يستخدم بشكل أفضل على أيدي الرأسماليين. أو كما يقول ماركس: «إن تحديد العمل في المصنع فرضته نفس الضرورة التي تجبر المزارع على وضع السماد في حقله». أما التشريعات في المصانع فإنها جاءت خطوة خطوة، تحدثت أولا عن النساء والأطفال بعد نضال عنيف دام عشرات السنين ضد المقاومة التي أبداها الرأسماليون الأفراد. وبعد ذلك كان دور فرنسا، فثورة شباط 1848 أعلنت، بضغط من البروليتاريا الباريسية المظفرة، أعلنت عن يوم عمل لا يزيد عن 12 ساعة وكان ذلك أول قانون عام حول وقت العمل بالنسبة لكل العمال، بل وحتى بالنسبة إلى البالغين في كل فروع الصناعة. وفي الولايات المتحدة في العام 1861 منذ نهاية الحرب الأهلية التي ألغت الرق، بدأ العمال تحركا عام في سبيل يوم عمل لا يزيد عن 8 ساعات، بعد ذلك امتد ذلك التحرك ليشمل القارة الأوربية بأسرها. وفي روسيا وُلدت أول القوانين التي تحمي النساء والأطفال القاصرين، وُلدت بفعل التحرك في مصانع منطقة موسكو في العام 1882، كما تقرر يوم العمل من 11,5 ساعة للرجال بفضل أولى الاضرابات العامة التي قام بها ستون ألفا من عمال النسيج في بطرسبرغ خلال العامين 1896-1897. أما ألمانيا التي صدرت فيها حتى الآن قوانين تحمي النساء والأطفال فإنها في ذيل الدول الكبيرة الحديثة... في هذا المجال.
نحن لم نتحدث حتى الآن إلا عن سمة واحدة من سمات العمل المأجور: وقت العمل، ورأينا أن الشراء البسيط والبيع البسيط لسلعة «قوة العمل»، قد أديا إلى ظواهر فريدة من نوعها. ولا بد هنا في أن نقول مع كارل ماركس: «إن علينا أن نعترف بان عاملنا قد خرج من الحصاد الحاد للإنتاج بشكل يختلف عن الشكل الذي دخل به. كان عاملنا هذا قد طرح نفسه في سوق العمل كمالكٍ لسلعة «قوة العمل»، ذلك إزاء مالكي السلع الأخرى، طرح نفسه كتاجر مقابل تاجر آخر. أما العقد الذي باع قوة عمله تبعا له فبدا وكأنه نتيجة اتفاق بين إرادتين حرتين، إرادة البائع وإرادة المشتري. وما أن تمت الصفقة حتى اكتشف صاحبنا بأنه ليس طرفا حرا بأي حال من الأحوال، وأن الزمن الذي باع قوة عمله من أجله هو الزمن الذي من أجله أُجبر على بيع قوة عمله. وأن الغول الذي يمص دمه لن يتركه طالما بقيت لديه في جسمه عضلة واحدة وعصبٌ واحد ونقطة دم واحدة يمكن استغلالها. ومن أجل الدفاع عن أنفسهم ضد الأفاعي التي تهلكهم صار ينبغي على العمال أن يجعلوا من أنفسهم رأسا واحدا وقلبا واحدا، ينبغي عليهم، بجهد جماعي عظيم، وبضغط تقوم به طبقة بأسرها، ينبغي عليهم أن يقيموا سدا لا يمكن تجاوزه، حاجزا اجتماعيا يمنعهم من يبع أنفسهم لرأس المال بواسطة عقد حر يربطهم هم وذريتهم، حتى العبودية والموت [75]».
إن المجتمع الراهن، وعبر قوانين حماية العمل، يعترف وللمرة الأولى بأن المساواة والحرية الشكليتين اللتين هما أساس الإنتاج وتبادل السلع، قد أفلستا، وتحولتا إلى نقيضيهما منذ اللحظة التي صارت فيها قوة العمل على شكل سلعة.