الاقتصاد السلعي والعمل المأجور(Quatriéme partie)
الاقتصاد السلعي والعمل المأجور-
روزا لوكسمبورغ
المحور: الارشيف الماركسي
Quatriéme partie
-2-
تكمن الطريقة الثانية التي يلجأ إليها الرأسمالي لزيادة فائض القيمة في تخفيض الأجور. فالأجر، كما هو الحال يوم العمل ليست له أية حدود معينة. وحين نتحدث عن الأجر ينبغي علينا قبل أي شيء آخر أن نميز بين المال الذي يقبضه العامل من المقاول وبين كمية وسائل العيش التي يتلقاها مقابل هذا المال. فإن نخن علمنا أن العامل يتلقى أجرا قيمته ماركان (2 مارك) يوميا لا نكون قد علمنا أي شيء على الإطلاق. وذلك لأن ما يشتريه العامل بالماركين في الفترات التي تكون فيها الحياة غالية، يقل كثيرا عما يمكن له أن يشتريه في الفترات التي تكون فيه الحياة رخيصة، وفي بلد ما توازي قطعة الماركين مستوى حياة يختلف عن المستوى الذي توازيه فيه هذه السلعة في بلد آخر، بل ويصدق الأمر في فارق يقوم بين منطقة وأخرى في البلد نفسه، وعلى هذا النحو يمكن للعامل أن يتلقى في مرة من المرات أجرا يفوق ما كان يتلقاه في مرة سابقة مثلا دون أن يعني هذا أنه يعيش الآن في شكل أفضل، هذا إذا لم يكن مستوى حياته الجديد أكثر سوءا. إن الأجر الحقيقي هو مجموع وسائل العيش التي يحصل عليها العامل بينما لا يكون الأجر النقدي سوى أجرٍ اسمي. فإذا لم يكن الأجر سوى التعبير النقدي عن قيمة قوة العمل، فإن هذه القيمة تتمثل في كمية العمل المستخدم لإنتاج وسائل العيش الضرورية للعامل. فما هي «وسائل العيش الضرورية»؟ بشكل مستقل عن الفوارق الفردية بين عامل وآخر، وهي فوارق لا تلعب أي دور، نجد أن الفوارق في مستوى معيشة الطبقة العاملة في مختلف البلدان وفي مختلف الأزمان تظهر لنا أن المفهوم الذي أمامنا مفهوم قابل للتغير ومرن. فالعامل الإنكليزي المرفه يعتبر أن تناول شريحة اللحم بشكل يومي أمر ضروري للحياة، أما الحمال الصيني فيمكنه أن يعيش على قبضة من الرز. وبالنظر إلى الطابع المرن لمفهوم «وسائل العيش الضرورية»، يدور على الدوام صراع شبيه بالصراع المتعلق بطول يوم العمل، بين الرأسمالي والعمال يتعلق بحجم الأجر. فالرأسمالي ينطلق من وجهة نظر كمشتر للسلع ويعلن قائلا: «صحيح أنه ينبغي عليّ، مثل كل مشتر نزيه، أن ادفع ثمن سلعة «قوة العمل» بما يتلاءم مع قيمتها، ولكن ما هي قيمة قوة العمل؟ حسنا! إنني أعطي عاملي بقدر ما يحتاج لعيشه، وما هو ضروري بصورة مطلقة لإقامة أود الإنسان أمر يحدده العلم والطب أولا ثم التجربة الكونية ثانيا. ومن البديهي القول أنني أعطي هذا الحد الأدنى الضروري، وذلك لأنني لو أعطيت قرشا زيادة، لن أكون مشتريا نزيها، بل إنسانا أحمق، أبله يقدم من جيبه هدايا لذاك الذي منه اشترى البضاعة، كذلك أنا لا أقدم قرشا هدية للاسكافي الذي أتعامل معه أو لبائع الستائر، بل إنني أحاول دائما أن اشتري بضاعتهما بأرخص ما يمكن. كذلك أسعى دائما لشراء قوة العمل بأرخص ما يمكن ولسوف أكون عادلا تمام العدل إن أعطيت عاملي الحد الأدنى الذي به يعتاش».
من وجهة نظر الإنتاج السلعي، من المؤكد أن الرأسمالي محق تماما فيما يقوله. والعامل ليس بأقل صوابا منه حين يجيبه كبائع للسلعة بقوله: «أنا ليس في استطاعتي أن أطالب بما يزيد عن القيمة الفعلية لسلعة «قوة العمل» التي أملكها. لهذا أطالب بأن تعطيني القيمة الحقيقية لسلعتي بمعنى أنني لا أرغب في الحصول على ما يزيد عن وسائل العيش الضرورية لي. كم حجم تلك الوسائل وما هي؟ إنك تقول أن الطب والتجربة يجيبان على هذا السؤال بتأكيدها على الحد الأدنى الذي يحتاجه الإنسان لكي يعيش. إذن فواضح أنك تقصد «بوسائل العيش الضرورية» الضرورة الفيزيولوجية المطلقة. لكن هذا أمر يتناقض مع قانون تبادل السلع. وذلك لأنك تعرف خيرا مني أن ما يحدد قيمه سلعة في السوق هو العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها. لو حمل إليك إسكافيّك زوجا من الأحذية وطلب فيها عشرين ماركا لأنه اشتغل عليها أربعة أيام، ستقول له: «لقد اشتريت هذا الحذاء نفسه من المصنع بـ 12 مارك لأنه يصنع هناك في يوم واحد بواسطة الآلات. أي أن عملك الذي استغرق أربعة أيام لم يكن ضروريا اجتماعيا لأن إنتاج الأحذية آليا صار رائجا-، حتى ولو كان ضروريا لك أنت الذي لا تملك الآلات. لا يمكنني أن أفعل أي شيء لأجلك ولن أدفع لك سوى العمل الضروري اجتماعيا أي 12 مارك. إنك تفعل هذا الأمر بالنسبة لشراء الأحذية، لذا يتوجب عليك أن تدفع لي النفقات الضرورية اجتماعيا لإعالة قوة عملي حين تشتريه. إنه ضروري لعيشي اجتماعيا كل ما يعتبر ضروريا بالنسبة إلى رجل ينتمي لطبقتي في هذا البلد رقي هذا العصر. باختصار أنت لا ينبغي عليك أن تعطيني فقط الحد الأدنى الضروري فيزيولوجيا، مما يبقيني على قيد الحياة مثل حيوان وحسب، بل ينبغي عليك أن تعطيني الحد الأدنى الساري اجتماعيا، والذي يضمن لي مستوى حياة عادي. فلو فعلت هذا ستكون مشتريا نزيها دفع القيمة الحقيقية للسلعة وإلا ستكون قد اشتريتها بما يقل عن قيمتها».
وهكذا نرى، أن العامل، من وجهة نظر سلعية بحتة، محق فيما بقوله بقدر ما الرأسمالي محق. لكنه غير قادر على فرض وجهة النظر هذه إلا على المدى الطويل، وذلك لأنه لا يمكن له أن يفرضها إلا كطبقة اجتماعية، أي عبر الجماعة، وعبر التنظيم، فمع تشكل النقابات والحزب العمالي فقط، سيكون بوسع الأجير أن يبدو في فرض بيع قوة عمله بقيمتها الحقيقية، أي فرض مستوى حياته كضرورة اجتماعية. قبل ظهور النقابات في بلد ما وفي فرع ما من فروع النشاط الاقتصادي، كان العامل الحاسم في تحديد الأجور اتجاه الرأسماليين لتخفيض حجم وسائل العيش الضرورية فيزيولوجيا، أي حيوانيا، بمعنى اتجاههم لدفع قيمة لقوة العمل تقل عن قيمتها الحقيقية بكثير. والأزمان التي لم تكن فيها التحالفات والمنظمات العمالية قادرة بعد على مقاومة هيمنة الرأسمال الجشعة، أدت كذلك إلى تدهور بربري لأوضاع الطبقة العاملة سواء فيما يتعلق بالأجور أو بزمن العمل... وهذا كله كان قبل صدور التشريعات الصناعية. إنها حملة صليبية قام بها الرأسمال ضد كل آثار الرفاهية والراحة التي كانت قد بقيت للعمال من أيام الحرفية والاقتصاد الزراعي البسيط، وكانت تلك الحملة عبارة عن جهد يهدف إلى تقليص استهلاك العامل ليقتصر على مجرد امتصاصٍ للحد الأدنى من الغذاء، تماما كما يحدث حين تطعم الماشية أو تزيت الآلات. والعمال الذين كانوا يعيشون في أخفض المستويات ولا تُسد سوى أقل احتياجاتهم كانوا يُذكرون كنموذجٍ أمام العمال «المدللين» أكثر من اللازم. إن هذه الحملة ضد مستوى حياة العمال بدأت في إنكلترا، مثلما كان حال الرأسمالية نفسها. وفي القرن الثامن عشر قال الكاتب الإنكليزي: «وماذا لو ننظر إلى الكمية المذهلة من الأشياء التافهة التي يستهلكها عمال مصانعنا: المسكرات، البن، الشاي، السكر، الفواكه المثيرة، البيرة القوية، الأقمشة المطّبعة، التبغ الخ». ومع مثل هذا القول كان العمال الفرنسيون والهولنديون والألمان يُذكرون أمام العمال الإنكليز كنموذج على التواضع. وعن هذا الوضع كتب صاحب مصنع إنكليزي يقول: «إن العمل هو أرخص في فرنسا منه في إنكلترا: ولأن البائسين (وهو الاسم الذي كان يطلق على العمال) الفرنسيين يعملون بجهد لكنهم متواضعون في طعامهم ولباسهم، فهم يكتفون في أعلب الأحيان بتناول الخبز والفواكه والأعشاب والسمك المجفف، ونادرا ما يأكلون اللحم، ويكتفون بالقليل حين يكون القمح غاليا».
وعند بداية القرن التاسع عشر وضع أمريكي هو الكونت رامغو رد كتابا أسماه «كتاب الطبخ للعمال» وملأه بوصفات تجعل الغذاء أرخص. وهاكم وصفة منتزعة من ذاك الكتاب الشهير الذي استقبل استقبالا طيبا من قبل برجوازيي عدد من البلدان: «5 ليبرات من الشعير، 5 ليبرات من الذرة، 30 جزء من الليبرة من سمك الرنكة، عشرة أجزاء من الملح، 10 أجزاء من الخل، 20 جزء من البهار والأعشاب، المجموع 2,08 مارك- وهي مواد تعطي حساء يكفي 64 شخصا، بل ويمكن تخفيض كلفة الشخص الواحد 3 أجزاء حسب معدل أسعار الحبوب». مما لاشك فيه أن عمال مناجم أمريكا الجنوبية يعيشون بفضل أقسى أنواع العمل في العالم، إذ يقوم عملهم في نقل بين 90 و100 كلغ من المعادن يوميا على أكتافهم، على مسافة من عمق الأرض حتى سطحها تصل إلى 450 قدما، لكنهم مع هذا يعيشون كما يقول جوستوس ليبنغ بفضل الخبز والفول وحدهما. هم أنفسهم يفضلون تناول الخبز وحده، لكن أسيادهم اكتشفوا بأنهم يعملون بشكل أبطأ لو تناولوا الخبز وحده، فعمدوا إلى معاملتهم معاملة الأحصنة وأجبروهم على تناول الفول، لأن الفول يساهم في تكوين العظام بشكل أفضل من الخبز. في فرنسا كانت أول ثورة سببها الجوع في العام 1831 قام بها عمال النسيج في ليون، ثم في عهد الإمبراطورية الثانية حين دخلت المكننة فرنسا بدأ الرأسمال في سلوك أبشع السبل لتخفيض الأجور، حيث عمد المقاولون إلى ترك المدن والتوجه إلى الأرياف طمعا في الحصول على أيد عاملة أرخص. وهم ذهبوا إلى أبعد من هذا بتشغيلهم النساء ومقابل أجر يومي للمرأة لا يزيد عن قروش قليلة. لكن تلك الأوقات السعيدة لم تدم فترة طويلة، وذلك لأن مثل تلك الأجور لم تكن لتسمح حتى بالعيش الحيواني. أما في ألماني فإن الرأسمال أوجد شروطا مشابهة في مصانع النسيج في البداية حيث أدت الأجور التي خفضت لما دون الحد الأدنى الفيزيولوجي أدت في أربعينات القرن التاسع عشر إلى قيام ثورات قام بها عمال النسيج في سيليزيا وبوهيميا. اليوم نجد أن الحد الأدنى الحيواني يشكل قاعدة للأجور في أي مكان لا تمارس فيه النقابات تحركها في مجال مستوى الحياة كما هو الحال لدى العمال الزراعيين في ألمانيا وفي صناعة الثياب وفي مختلف فروع الصناعات المنزلية.
-3-
تكون الجيش الاحتياطي
حين يزيد من أعباء العمل وينخفض من مستوى حياة العمال حتى الحدود الفيزيولوجية الممكنة ودونها، يصبح الاستغلال الرأسمالي شبيها باستغلال العبيد والأقنان في أسوأ لحظات تدهور هذين النمطين الاقتصاديين، أي عشية زوالها. غير أن ما ولده الإنتاج السلعي الرأسمالي وكان مجهولا تماما في كل العهود السابقة، هو بطالة العمال، أي عدم استهلاكهم، بوصف تلك البطالة ظاهرة دائمة، وهو ما يطلق عليه اسم الجيش الاحتياطي من العمال. إن الإنتاج الرأسمالي يتعلق بالسوق ويتوجب عليه السير تبعا لسير الطلب. وهذا الطلب يتغير باستمرار مولدا على التوالي ما يطلق عليه اسم سنوات ومواسم وشهور الأعمال الطيبة والسيئة.
وعلى الرأسمال أن يتأقلم باستمرار مع هذا التغيير ويشتغل بالتالي أعدادا من العمال تقل حينا وتزيد حينا. وعليه، لكي يكونوا ممتلكا على الدوام الكمية الضرورية من قوة العمل التي تستجيب لمختلف درجات متطلبات السوق، عليه أن يُبقي في الاحتياط على عدد كبير من العمال غير المستخدمين، إلى جانب أولئك الذين استخدمهم. والعمال غير المستخدمين لا يتلقون أجرا لأن قوة عملهم غير مباعة، بل هي موجودة كاحتياطي، أما عدم استهلاك جزء من قوة العمل فإنه جزء لا يتجزأ من قانون الأجور في الإنتاج الرأسمالي.
أما كيف يمكن لهؤلاء العاطلين عن العمل أن يعيشوا فأمر لا يعني الرأسمالي على الإطلاق، فهو يقاوم كل محاولة لإلغاء جيش الاحتياط بوصفها تهديدا لمصالحه الحيوية الخاصة. وأزمة القطن الإنكليزية التي حدثت في العام 1863 تعطينا المثل الصارخ على هذا الواقع. فحين أرغم نقصان القطن الأمريكي الخام الحائكين والنساجين الإنكليز فجأة على وقف إنتاجهم بحيث وجد مليون عامل أنفسهم من دون خبز، قرر قسم من العاطلين الهجرة إلى استراليا هربا من المجاعة. وطلبوا من البرلمان الإنكليزي تخصيص مليون ليرة إنكليزية لتمكين 50 ألف عامل عاطل عن العمل من الهجرة. يومها استثار هذا الطلب العمالي صرخات الاستهجان التي أطلقها صانعو القطن. فالصناعة لا يمكنها أن تعيش من دون آلات، والعمال كالآلات يجب أن يتوفر احتياطي منهم. كان من الواضح أن «البلد» ستحمل خسارة 4 ملايين ليرة لو أن العمال العاطلين والجائعين هاجروا على الفور وبالنتيجة رفض البرلمان تخصيص أموال للهجرة وظل العاطلون في وضعهم يشكلون الاحتياطي الضروري لرأس المال. وثمة مثل صارخ آخر زودنا به الرأسماليون الفرنسيون في العام 1871. فبعد سقوط الكومونة، كانت المجازر التي تعرض لها العمال الباريسيون، تبعا للشرائع وخارجها أيضا، كانت من الضخامة بحيث أنها أدت إلى مقتل عشرات ألوف البروليتاريين، الذين كان معظمهم من خيرة العمال وأنشطهم ومن نخبة الطبقة العاملة، أمام مقتل كل هذه الأعداد من العمال، شعر أصحاب العمل، بعد أن استجابوا لظمأهم للثأر، شعروا بالقلق أمام فكرة نقصان «اليد العاملة» الاحتياطية، الذي قد تكون له آثاره على رأس المال، خاصة وأن الصناعة كانت في طريقها، آنذاك وبعد نهاية الحرب، لتعرف ازدهارا كبيرا في أعمالها. ولهذا عمد عدد كبير من المقاولين الباريسيين للقيام بمساع أمام المحاكم من أجل تخفيف ملاحقة أعضاء الكومونة، وانقاذ أصحاب اليد العاملة من السلطات المدنية، لإعادتهم إلى أحضان الرأسمال.
إن لجيش العمال الاحتياطي، بالنسبة إلى رأس المال، وظيفة مزدوجة: فهو من جهة يزوده بقوة العمل وفي حال حدوث انطلاقة مفاجئة للأعمال، ومن جهة ثانية تأتي المنافسة التي يقوم بها العاطلون لتمارس ضغطا مستمرا على العمال المستخدمين وتخفض أجورهم حتى الحدود الدنيا. ويميز ماركس في جيش الاحتياط أربع شرائح تختلف وظيفتها بالنسبة إلى رأس المال ولها شروط حياة مختلفة عن بعضها البعض. ففي الشريحة العليا هناك عمال الصناعة الذين يتعطلون عن العمل لفترات منتظمة وهم موجودون حتى في أفضل المهن، ووضعهم كأفراد دائم التغير لأن كل عامل منهم يكون عاطلا عن العمل في فترة ما، ثم يستخدم خلال فترات أخرى، أما عددهم فيتغير كثيرا تبعا لسوق الأعمال فيكون كبيرا للغاية في زمن الأزمات وضعيفا حين تتحسن الظروف وهو عدد لا يختفي أبدا بصورة تامة بل يزيد تبعا لتقدم الصناعة. الشريحة الثانية تشكلها جمهرة البروليتاريين غير الموصوفين الذين يتدفقون من الريف إلى المدن، وهؤلاء يتقدمون إلى سوق العمل بمطالب بالغة التواضع ولا يكونون مرتبطين بأي فرع صناعي خاص، هم باختصار يشكلون احتياطي اليد العاملة الصالح لكل أنواع الصناعة. الشريحة الثالثة يشكلها بروليتاريون من مستوى منخفض لا يقومون بأعمال منتظمة ويعيشون على الدوام حالة سعي وراء عمل موسمي. ولدى هذه الشريحة نعثر على أطول أيام العمل وعلى أكثر الأجور انخفاضا. وبهذا المعنى تكون هذه الشريحة مفيدة وضرورية لرأس المال بقدر ما تكون الشريحة العليا مفيدة وضرورية. والعمال المنتسبون إلى هذه الشريحة يأتون غالبا من بين العمال الفائضين عن الصناعة والزراعة ولاسيما من أوساط العمل الحرفي المتدهور وفي الأعمال الثانوية التي تكون في طريقها إلى الزوال. ومن المعلوم أن هذه الشريحة تشكل أساس الصناعات المنزلية وتعمل بين الكواليس خلف المسرح الرسمي للصناعة. إنها لا تنحو أبدا للزوال بل هي على العكس من هذا أبدا في ازدياد أولا لأن تأثير الصناعة على المدينة وعلى الريف يسير في هذا الاتجاه، وثانيا لان لها دائما أكبر نسبة ولادة.
أما الشريحة الرابعة بين شرائح جيش الاحتياط البروليتاري فتتألف من «الفقراء» الحقيقيين الذين ينقسمون على فريق قادر على العمل. وتستخدمهم الصناعة والزراعة جزئيا في فترات ازدهار الأعمال، وفريق غير قادر على العمل يتألف من عمال كبار في السن لم يعد بامكان الصناعة استخدامهم ومن أرامل البروليتاريين ويتاماهم وأولئك الذين يتشوهون واقعين ضحية للصناعة الكبرى وللمناجم الخ. وهناك أخيرا أولئك الذين فقدوا عادة العمل وتحولوا على متشردين. وأبناء هذه الشريحة هم الذين يتحولون مباشرة إلى البروليتاريا الرثة: بما فيها من مجرمين وعاهرات. يقول ماركس إن الإفقار يشكل مأوى الطبقة العاملة والثقل الأساسي لجيشها الاحتياطي. ووجود هذا الإفقار يتحدد بالضرورة عن وجود جيش الاحتياط تماما كما أن هذا الجيش ينحدر عن تطور الصناعة. إن الفقر والبروليتاريا الرثة يشكلان جزءا من شرط وجود الرأسمالية نفسها ويزيدان بزيادتها: وبقدر ما تكون الثروة الاجتماعية والرأسمال وجمهرة العمال المستخدمين من هذا الرأسمال كبارا بقدر ما تكون كبيرة شريحة العاطلين عن العمل الموجودين في الاحتياط، أي جيش الاحتياط. وكلما كان جيش الاحتياط كبيرا بالنسبة إلى جمهرة العمال المستخدمين، كلما كانت كبيرة شريحة الفقر الدنيا والإفقار والجريمة. إن جمهرة العمال غير المستخدمين أي الذين لا يقبضون أجرا وكذلك شريحة العمال العاطلين موسميا من بين أبناء الطبقة العاملة، يزيدون عددا مع ازدياد الرأسمال والثروات وذلكم هو، كما يقول كارل ماركس «القانون العام والمطلق للتراكم الرأسمالي [76]».
لقد كان تشكل شريحة دائمة ومتنامية من العاطلين أمرا مجهولا في ظل أشكال المجتمع السابقة. فلدى الجماعة المشاعية البدائية كان من البديهي لكل إنسان أن يعمل، بقدر ما كان يتوجب عليه أن يعمل، لكي يتمكن من إعالة نفسه بنفسه، جزئيا انطلاقا من حاجته المباشرة، وجزئيا بفعل ضغط السلطات الأخلاقية والاجتماعية لدى القبيلة ولدى الجماعة. لأن كل أعضاء المجتمع يتمتعون بوسائل العيش. أما نمط الحياة لدى الجماعة المشاعية البدائية فكان متدنيا وبسيطا للغاية كما كانت شروطه بدائية للغاية. وبقدر ما كانت هناك وسائل عيش كانت تلك الوسائل تتوفر بالتساوي للجميع أما الفقر بالمعنى الراهن للكلمة، أي الحرمان من الوسائل المتوفرة في المجتمع، فكان مجهولا. كانت القبيلة البدائية كلها تشعر بالجوع، من وقت لآخر أو غالبا، حين لا تكون الشروط الطبيعية ملائمة، أما حرمانها فكان حرمانا للمجتمع بوصفه مجتمعا، أما حرمان جزءٍ من أعضاء المجتمع في مواجهة رفاه جزء آخر فكان أمرا غير وارد على الإطلاق، فحين كانت المؤن متوفرة لجميع أعضاء المجتمع، كانت تتوفر لكل واحد من هؤلاء الأعضاء.
وفي العبودية الشرقية والقديمة كان الأمر نفسه. فمهما كان العبد العام المصري والعبد الخاص اليوناني، مشتغلا ومقهورا، ومهما كان حجم الهوة التي تفصل بين المستوى الهزيل لعيش العبد ورفاهية سيده، كان وضعه كعبد يضمن له وجوده على أي حال، لم يكن العبيد يُتركون للموت جوعا، تماما كما أن لا أحد يترك حصانه أو ماشيته تموت جوعا. والأمر كان هو نفسه في زمن القنانة القروسطية: كان نظام التبعية الإقطاعية (حيث يرتبط الفلاح بالأرض التي يزرعها وحيث كان كل إنسان سيدا على آخرين، وخادما في الوقت نفسه لسيد أو لسيدين معا) كان هذا النظام يحدد لكل واحدٍ موقعا معينا. ومهما تعرض الأقنان للقمع لم يكن للسيد الحق في طردهم من الأرض أي حرمانهم من أدوات عيشهم. وكانت العلاقات الإقطاعية تجبر السيد على مساعدة الفلاحين أيام الكوارث والحرائق والأعاصير. الخ. وهذا الوضع لن يتغير إلا عند نهاية العصور الوسطى حين بدأت الإقطاعية تتهاوى وبدأت الرأسمالية الحديثة في الظهور. في العصور الوسطى كان بقاء جمهرة العمال مضمونا. صحيح أنه قد تشكلت في ذلك العصر جماعة صغيرة من البائسين والمتسولين نمت بفضل الحروب العديدة واختفاء الثروات الفردية، غير أن إعالة هؤلاء البائسين كانت تعتبر واجبا من واجبات المجتمع. ولنذكر هنا أن الإمبراطور شارلمان كتب في «الأوامر العليا»: «وفيما يتعلق بالمتسولين الذين يشردون في البلاد نريد من كل واحد من نبلائنا أن يُطعم الفقراء، أما في مركزه الرئيسي وإما في منزله، وأن لا يسمح لهم بالتسول في أماكن أخرى». وفي وقت لاحق صار من عمل الأديرة الاهتمام بإيواء الفقراء وإعطاؤهم عملا يقدرون عليه. في العصور الوسطى كان كل محتاج ضامنا حصوله على استقبال جيد في كل منزل فإعالة الفقراء كانت واجبا والفقير لم يكن يجابه بالاحتقار الذي يجابه به المتسول حاليا.
إن التاريخ يعرف حالة واحدة حُرمت فيها شريحة بأسرها من السكان من العمل ومن الخبز، وهي الحالة التي ذكرناها سابقا عن ملاهي روما القديمة الذين فردوا في أراضيهم وتحولوا إلى بروليتاريين لا يملكون أي عملا على الإطلاق.ولقد كانت بلترة الفلاحين نتيجة لتشكل الإقطاعيات الفلاحية الكبيرة (اللاتيفونديا) وازهار العبودية، تلك البلترة لم تكن ضرورية لوجود العبودية والملكيات الكبيرة. فالبروليتاري الروماني غير المستخدم كان يعتبر تعاسة لا أكثر ولا أقل. كان يعتبر عبئا جديدا على المجتمع الذي كان يحاول إصلاح الأمور عبر توزيع منتظم للأراضي وللمؤن وعبر تنظيم عمليات استيراد كثيفة للحبوب، وعبر تخفيض كمية تلك الحبوب. في نهاية التحليل كانت تلك البروليتاريا عالة على الدولة في روما القديمة.
إن الإنتاج السلعي الرأسمالي هو أول شكل اقتصادي في تاريخ البشرية يعتبر فيه غياب العمل ووسائل العيش بالنسبة إلى شريحة كبيرة ومتعاظمة من السكان وفقر شريحة أخرى، متنامية كذلك، ليس فقط نتيجة الاقتصاد، بل أيضا ضرورة من ضروراته وشرطا لوجوده. فعدم ضمان البقاء بالنسبة لجمهرة العمال كلها والحرمان المزمن أو فقر شرائح عريضة من السكان، تعتبر الآن وللمرة الأولى ظاهرة عادية من ظواهر المجتمع. إن العلماء البرجوازيين الذين لا يمكنهم تصور شكل آخر للمجتمع تمكنوا من فهم الضرورة الطبيعية لوجود العاطلين والبائسين لدرجة صاروا معها يرون في تلك الضرورة قانونا طبيعيا يتم بمشيئة الله. وفي هذا المجال بنى الإنكليزي مالتوس عند بداية القرن التاسع عشر نظريته الشهيرة حول فائض السكان، تلك النظرية التي تقول بأن الفقر يتأتى عن العادة السيئة التي تنتهجها الإنسانية وتقوم في زيادة النفوس بوتيرة أسرع من زيادة وسائل العيش.
إن هذه النتائج كلها تتمخض عن واقع الإنتاج السلعي وتبادل السلع. فقانون السلع هذا الذي يقوم شكليا على المساواة والحرية الناميتين، يؤدي تلقائيا، ومن دون تدخل القوانين أو القوة، وبالضرورة الحتمية، إلى تفاوت اجتماعي صارخ كان مجهولا في كل الحالات السابقة التي كانت تقوم على الهيمنة المباشرة لإنسان على الآخرين. فللمرة الأولى صار الجوع إعصارا يخبط يوميا في فضاء حياة الجماهير العاملة. وثمة من يزعم بأن في الأمر قانونا طبيعيا. ففي العام 1786 كتب الراهب الانغليكاني توزند يقول: «يبدو أن ثمة قانونا طبيعيا يشاء للبائسين أن يعيشوا ضمن مستوى بؤس يجعلهم على الدوام جاهزين للقيام بأشق الأعمال وأقذرها وأكثرها ابتذالا في المجتمع. ومن جراء هذا زادت أسس السعادة الإنسانية كثيرا، فالأشخاص الأكثر رهافة تحرروا على هذا النحو من العمل الشاق وصار بإمكانهم أن يقوموا بالمهام الأكثر أهمية من دون انزعاج. أما قانون البائسين فإنه ينحو إلى تحطيم التناسق والجمال، وتوازن هذا النظام الذي أقامه الله والطبيعة في العالم».
إن القوم «الرهيفين» الذين يعيشون على حساب الآخرين رأوا دائما في كل شكل اجتماعي يضمن لهم لذائذ العيش كمُستغلين، أصبح الله وقانون الطبيعة. كذلك نرى أن أكبر العقول لا تفلت من هذا الوهم التاريخي. فقبل آلاف السنين من الراهب الانكليزي كتب المفكر اليوناني الكبير أرسطو يقول: «إن الطبيعة نفسها هي التي خلقت العبودية والحيوانات تنقسم إلى ذكور وإناث. الذكر هو الحيوان أقل كمالا وهو الذي يقود. أما الأنثى فهي حيوان أقل كمالا وهي التي تطيع. ولدى الجنس البشري هناك الأمر نفسه: هناك أناس أدنى من الآخرين كما أن الجسد أدنى من الروح والحيوان من الإنسان: إنها كائنات لا تفيد إلا في الأعمال الجسدية وعاجزة عن إنجاز أي شيء أكثر كمالا. هؤلاء الأفراد وخلقتهم الطبيعة نفسها ليكونوا عبيدا وذلك لأن ليس لديهم ما هو أفضل من إطاعة الآخرين. على أي حال هل هناك فارق كبير بين العبد والحيوان إن أعمالهما متشابهة، وهما لا يفيداننا إلا عبر جسديهما. ولنستنتج من هذه المبادئ أن الطبيعة قد خلقت بعض الناس ليكونوا أحرارا وخلقت آخرين ليكونوا عبيدا. وإن خضوع العبد أمر مفيد وعادل».
غير أن «الطبيعة» التي جُعلت مسؤولة عن كل شكل من أشكال الاستغلال، صارت دون ريب فاسدة الذوق مع مرور الوقت. فحتى إذا كان يليق بها أن تفرض ذل العبودية على جمهرة شعبية لكي تجعلها تعيل شعبا حرا يتألف من فلاسفة وعباقرة من أشباه أرسطو، فإن التدهور الراهن لملايين البروليتاريين في سبيل ازدهار عدد من الصناعيين المبتذلين والكهنة المتخمين يبدو هدفا غير مغر كما ينبغي.
-4-
لقد درسنا حتى الآن مستوى الحياة الذي يوفرها الاقتصاد السلعي الرأسمالي للطبقة العاملة ولمختلف شرائحها. لكننا لا نعرف بعد أي شيء محدد حول علاقات مستوى حياة العمال هذا بالثروة الاجتماعي في مجموعها. فأحيانا يمكن للعمال أن يحوزوا على كمية أكبر من وسائل العيش، على غذاء أوفر، وعلى ملابس أفضل مما كان في السابق، فإذا كانت ثروة الطبقات الأخرى قد زادت أيضا بشكل أكثر تسارعا، فمعنى هذا أن حصة العمال من الناتج الاجتماعي قد تقلصت. فالواقع أن مستوى حياةالعمال قد يرتفع في المطلق وينخفض نسبيا بالمقارنة مع الطبقات الأخرى. فمستوى حياة كل إنسان وكل طبقة لا يمكن الحكم عليه حكما صحيحا إلا إذا نظر إليه بالنسبة إلى الوضع في الفترة المعينة وبالنسبة إلى وضع الشرائح الأخرى في المجتمع نفسه. فأمير قبيلة زنجية بدائية نصف متوحشة أو بربرية في أفريقيا قد يكون له مستوى حياة أكثر انخفاضا أي منزلا أكثر بساطة وثياب أقل جودة وأغذية أقل فائدة مما يحصل عليه العامل المشتغل في مصنع متوسط في ألماني. ومع هذا فإن هذا الأمير يعيش عيشة «أميرية» بالمقارنة مع وسائل ومتطلبات قبيلته، بينما يعيش العامل الألماني عيشة بائسة بالمقارنة مع الترف الذي تعيشه البرجوازية الثرية في بلده، ومع متطلبات الحياة في هذا البلد. إذن من أجل الحكم حكما صحيحا على وضع العمال في المجتمع الراهن من الضروري عدم الاكتفاء بدراسة الأجر المطلق، أي حجم الأجر، بل ويجب دراسة الأجر النسبي أي الحصة التي يمثلها الأجر ضمن إطار المنتوج الكلي لعمل العامل. لقد افترضنا في المثل الذي أعطيناه أعلاه أن على العامل، خلال يوم عمل يتألف من 11 ساعة أن يستعيد أجره، أي المبلغ الذي يكفي لإعالته، خلال أول 6 ساعات عمل، ومن ثم يخلق مجانا خلال الساعات الخمس التالية فائض قيمة للرأسمالي. في هذا المثل، اتفقنا على إنتاج وسائل العيش يكلف العامل 6 ساعات عمل. ولقد رأينا كيف أن الرأسمالية تسعى وبكل الوسائل لتخفيض مستوى حياة العامل من أجل إحداث أكبر زيادة ممكنة في حجم العمل غير المدفوع. أي فائض القيمة. ولنفترض هنا أن مستوى حياة العامل لا يتغير أبدا وأن هذا العامل قادر على الحصول دائما على نفس كمية الغذاء واللباس والأثاث الخ. ولنفترض أن الأجر مأخوذا بشكل مطلق لا ينخفض أبدا. فإذا حدث مع هذا أن إنتاج وسائل العيش هذه قد صار أرخص كلفة بفضل تقدم التقنية وصار يتطلب زمنا أقل، سيكون العامل بحاجة إلى فترة أقل من أجل استعادة أجره، ولنفترض أن كمية الغذاء واللباس والأثاث التي يحتاجها العامل يوميا تتطلب 5 ساعات عمل بدلا من 6 ففي يوم عمل من 11 ساعة لن يشتغل العامل 6 ساعات بل 5 ساعات فقط للتعويض على أجره، وسيبقى 6 ساعات للقيام بعمل غير مدفوع أي لخلق فائض قيمة للرأسمالي. إن حصة الإنتاج التي ينالها العامل انخفضت الآن بنسبة السدس. أما حصة الرأسمالي فإنها زادت بنسبة الخمس، بيد أن الأجر المطلق لم ينخفض أبدا، بل وقد يحدث أحيانا أن يرتفع مستوى حياة العامل، أي أن يرتفع أجره المطلق بنسبة 10% مثلا، ولا ينطبق هذا فقط على أجره النقدي بل على وسائل العيش الحقيقية. فإذا زادت إنتاجية العمل في القوت نفسه أو بعد فترة بنسبة 15%، تكون حصة الإنتاج التي نالها العامل، أي أجره النسبي قد انخفضت، رغم أن أجره الحقيقي قد ارتفع. إذن فإن حصة الإنتاج التي ينالها العامل ترتبط بإنتاجية العمل. وكلما كان حجم العمل المطلوب لإنتاج وسائل عيش العامل أكثر تدنيا. كلما انخفض أجره النسبي. فإذا كانت القمصان والأحذية والقبعات التي يرتديها، تصنع خلال وقت أقل بفضل تقدم الصناعة، يكون في امكانه الحصول على نفس الكمية من القمصان ومن الأحذية ومن القبعات التي كان يحصل عليها في السابق أي أنه يتلقى على أي حال قسطا أكثر ضآلة في الثروة الاجتماعية، ومن إجمالي العمل الاجتماعي. إن جميع المنتجات والمواد الأولية الممكنة تدخل بكمية معينة في الاستهلاك اليومي للعامل. فليس فقط إنتاج القمصان هو الذي يجعل إعالة العامل أرخص كلفة، بل هناك أيضا إنتاج القطن الذي يوفر الأقمشة للقمصان، وصناعة الآلات التي تنتج آلات الخياطة وصناعة الخيطان التي تنتج الخيطان وتقدم صناعة الخبز ليس هو وحدة ما يجعل إعالة العامل أرخص، بل أن هناك أيضا الزراعة الأمريكية التي توفر الحبوب وتطور السكك الحديدية والملاحة التجارية التي تنقل الحبوب إلى أوربا الخ. إن كل تطور يصيب الصناعة وكل زيادة في إنتاجية العمل الإنساني تجعل إعالة العمال تتطلب عملا أقل وأقل. إن على العامل أن يخصص حصة تتناقص دائما من يوم عمله للتعويض على أجره، وحصة تتزايد دائما للعمل غير المدفوع أي لخلق فائض القيمة للرأسمالي.
بيد أن التقدم المستمر والدائب للتقنية يشكل ضرورة حيوية بالنسبة للرأسماليين. والتنافس بين المقاولين الأفراد يرغم كل واحد من بينهم على بيع منتوجاته بأرخص ما يمكن، وذلك عبر توفير الحد الأقصى من العمل البشري. فإذا أدخل رأسمالي في مصنعه تحسينا جديدا، من الواضح أن المنافسة سترغم المقاولين الآخرين المشتغلين في نفس الفرع على تحسين تقنياتهم لكي لا يمّحوا من السوق. ويتم التعبير عن هذا الأمر خارجيا عبر إدخال المكننة بديلا للعمل اليدوي وعبر استحضار آلات جديدة أكثر تطورا بدلا من الآلات القديمة الموجودة. فالاختراعات التقنية أضحت الخبز اليومي في كل مجالات الإنتاج. إن الانقلاب التقني سوء في الإنتاج نفسه أو في وسائل النقل، صار ظاهرة دائمة، وقانونا حيويا من قوانين الإنتاج السلعي الرأسمالي. وكل تقدم في إنتاجية العمل يتبدى في انخفاض كمية العمل الضروري لإعالة العامل. والإنتاج الرأسمالي لا يمكنه أن يخطو أية خطوة إلى الأمام إن لم يقلص من حصة العمال في المنتوج الاجتماعي.
ولدى ظهور كل اختراع تقني جديد ولدى كل تحسن يطرأ على الآلات، ولدى كل إدخال جديد للبخار والكهرباء في الصناعة وفي النقل من الواضح أن حصة العامل من الإنتاج تتضاءل بينما تكبر حصة الرأسمالي. وعلى هذا ينخفض الأجر النسبي أكثر وأكثر انخفاضا لا يقاوم ولا يهدأ بينما يزيد فائض القيمة، أي الثروة غير المدفوعة المنتزعة من العامل على يد الرأسماليين.
وها نحن نرى من جديد هنا فارقا صارخا بين الإنتاج السلعي الرأسمالي وبين كافة الأشكال الاقتصادية السابقة. ففي المجتمع المشاعي البدائي كان المنتوج يقسم بشكل مباشر بعد الإنتاج وبطريقة متساوية، بين كل العاملين أي بين كل أعضاء المجتمع لأن ليس ثمة أي عاطل هنا من الناحية العملية. في مجتمع القنانة ليس هناك مساواة، لكن الأمر المحدّد هو استغلال الذين يعملون للذين لا يعملون. ومع هذا لا يتم هنا تحديد حصة أولئك الذين يعملون، أي الأقنان، في ثمار عملهم، بل تحدد حصة المستغل أي السيد الإقطاعي التي يحصل عليها على شكل جزيات وأعشار محددة يتلقاها من الفلاحين أما ما يتبقى على شكل زمن عمل وعلى شكل إنتاج فهو حصة الفلاح بشكل جعل هذا الفلاح، وقبل التفكك الكبير للقنانة، حائزا إلى حد ما على إمكانية زيادة حصته الخاصة عبر مضاعفة جهوده. صحيح أن حصة الفلاح تناقصت خلال العصور الوسطى حيث صار النبلاء والكنيسة يزيدون في طلبهم للجزيات والأعشار. ولكن كانت هناك على الدوام قواعد محددة، قد تكون محددة بشكل عشوائي لكنها قواعد مرئية حددها البشر حتى ولو كانوا بشرا غير إنسانيين، هدفها تحديد حصة القن وحصة سيده ومستغلة من الإنتاج. وعلى هذا النحو كان فلاح القرون الوسطى يرى ويستشعر جيدا حين تُلقى عليه أعباء كثيرة بينما تتضاءل فعلا حيثما كان الأمر ممكنا، على شكل صراع مفتوح بين الفلاح المستغل وبين من يقلص من حصته في منتوج عمله. في بعض الأوضاع كان هذا الصراع يتتوج بالنجاح: فتجربة البرجوازية المدنية لم تتأت إلا عن نضال الحرفيين الذين كانوا في الأصل أقنانا، من أجل التخلص قليلا فقليلا من كل أنواع الجزيات والأعشار المتزايدة في العهد الإقطاعي، ولقد انتهى بهم الأمر إلى تحقيق الظفر في الصراع المفتوح- وكان الظفر متمثلا في الحرية الشخصية الشاملة للملكية [77].
في النظام القائم على الأجر، ليست هناك تحديدات تشريعية أو قائمة على العرف ولا حتى تحديدات تعسفية تحدد حصة العامل من إنتاجه. فهذه الحصة تحددها درجة إنتاجية العمل ومستوى التقنية. وليس تعسف المستغلين بل تقدم التقنية هو الذي يخفض دون رحمة أو هوادة من حصة العامل. إنها قوة خفية، وأثر ميكانيكي صرف من آثار التنافس والإنتاج السلعي هو ذاك الذي ينتزع من العامل قسطا متزايدا باستمرار في إنتاجه تاركا له على الدوام قسطا أقل وأقل. إنها قوة تتحرك دون صخب من وراء ظهور العمال قوة صار النضال ضدها مستحيلا. إن الدور الشخصي للمستغل يمكن رؤيته حين يتعلق الأمر بالأجر المطلق أي بمستوى الحياة الحقيقي. فانخفاض الأجر الذي يؤدي إلى انخفاض في مستوى الحياة الحقيقي للعمال، يُعتبر عدوانا يشنه الرأسماليون ضد العمال في وضح النهار والعمال يعمدون إلى الرد عبر النضال حيث تكون ثمة نقابة، ويتمكنون في بعض الحالات الملائمة من وقف ذلك العدوان. أما انخفاض الأجر النسبي فإنه يتم دون أي تدخل شخصي من الرأسمالي، وضعه لا يمكن للعمال بأن يقوموا بأي نضال أو أن يدافعوا عن أنفسهم ضمن إطار نظام الأجور، أي على أرضية الإنتاج السلعي نفسها. ضد التقدم التقني للإنتاج وضد الاختراعات وضد إدخال الآلات وضد البخار والكهرباء وضد تطوير أدوات النقل، لا يمكن للعمال بأن يقوموا بأي نضال. غير أن مفعول هذا التطور كله على الأجر النسبي للعمال ينتج تلقائيا عن الإنتاج السلعي وعن الطابع السلعي لقوة العمل. وهذا ما يجعل أقوى النقابات عاجزة في وجه هذا الاتجاه الدائم للانخفاض السريع للأجر النسبي. إن النضال ضد انخفاض الأجر النسبي هو النضال ضد الطابع السلعي لقوة العمل، وضد الإنتاج الرأسمالي بأكمله. فالنضال ضد سقوط الأجر النسبي ليس نضالا يخاض على أرضية الاقتصاد السلعي، بل هو هجمة ثورية ضد هذا الاقتصاد، إنه التحرك الاشتراكي للبروليتاريا.
من هنا كان تعاطف الطبقة الرأسمالية مع النقابات التي كانت في البداية قد حاربتها بشراسة، ولقد بدأ هذا التعاطف ما أن ابتدأ النضال الاشتراكي ومع ازدياد حدة مجابهة النقابات للاشتراكية. ففي فرنسا ظلت الصراعات التي خاضها العمال للحصول على حق إقامة الاتحادات، غير مجدية حتى سبعينات القرن التاسع عشر وظلت النقابات مطاردة وعرضة لأشد العقوبات وهولا. ومع هذا بعد فترة يسيرة من حدوث الخوف العظيم الذي استشعرته البرجوازية في الكومونة ومن شبحها الأحمر، حدث في الرأي العام تغير مفاجئ. فبدأت صحيفة الرئيس غامبيتا «الجمهورية الفرنسية»، وكل الحزب المهيمن باسم الجمهوريين بدأوا في تشجيع الحركة النقابية وفي الدعاية لها بنشاط. وعند بدايات القرن التاسع عشر كان العمال الألمان يذكرون أمام العمال الإنكليز كمثال على الطاعة والهدوء، أما أمام العامل الألماني فكان يؤتي على ذكر العامل الإنكليزي، ليس بوصفه عاملا هادئا بل بوصفه عاملا «نهما» ترديونيونيا (نقابيا) من أكله «البفتيك». ولقد ظل هذا الأمر قائما طالما كان صحيحا أن البرجوازية ترى في النضال الأكثر شراسة من أجل زيادة الأجر المطلق عملا غير مؤذ بالمقارنة مع الهجمة على قدس الأقداس على قانون الرأسمالية. الذي ينحو دائما إلى إحداث انخفاض مستمر في الأجر النسبي.