الدولة الإسلامية واقع تاريخي أم نموذج وهْمي ؟Première partie
UN ESSAI DE MAKHLOUF AMEUR
مخلوف عامر
الدولة الإسلامية
واقع تاريخي أم نموذج وهْمي ؟
تمهيـد
ربما كانت قضية التراث من أكثر القضايا التي احتدم فيها النقاش طيلة النصف الثاني من القرن العشرين ، ولم يقتصر حضور التراث على الحقـل السياسي/ الإيديولوجي ، بل امتد إلى الكتابة الأدبية سواء لغرص جمالي أو لمراجعة التاريخ ونقده أو قد يلتقي الغرضان معا .
وإذا كانت قراءتي هذه تنطلق من الواقع الجزائري لتطال التاريخ العربي الإسلامي ، فذلك لأن الجزائر راكمت في ظرف قصير جملة من التجارب والمعطيات لم يشهدْها أي بلد عربي . فهي من هذه الزاوية تشكل نموذجا طليعيا في اختبار الإسلام السياسي لِمَن أراد أن يختصر على نفسه الزمن والمسافة .
ولا أقصد بالطليعية – ها هنا – تلكم الطريقة التي تعامل بها النظام مع هذه الظاهرة ، بل أقصد النخبة المتنورة في أي بلد والتي بإمكانها أن تستخلص الدرس الصحيح الدائم عن العلاقة بين الدين والسياسة .
ولعل ذلك يعود إلى الإرث الاستعماري ، فقد أدت المواجهات الثقافية بالأهالي إلى البحث عن هوية مفقودة فشكل الماضي قلعتهم الحصينة .وبعدما استقلت البلاد راح كل فريق يبحث لنفسه عن مرجعية فكرية فكان التراث العربي الإسلامي يحتل الصدارة إنْ بالنسبة للنظام الحاكم الذي لم يستقر على مشروع محدد ، أو بالنسبة للتيار الإسلاموي الذي يتلذذ بحضور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الخطاب الرسمي للسلطة بوصفها مصدرا أساسيا للشرعية التاريخية ، ولكنه في الممارسة يقطع معها ليرتبط مباشرة بالحركات الدخيلة .
ولا شك أن للمخزون الشعبي الإيماني والأمية الجهل دورا كبيرا في انتعاش هذا التيار وتقويته ، لأن ذلك كله شكل تربة خصبة جاهزة بحيث لا يحتاج إلا لأنْ يرمي بحجارة صغيرة لتحريك المياه الراكدة .
وبالنظر إلى وضعية المنظومة التربوية التي أُلبست فيها العلوم الإنسانية بُرْدَة دينية فاختلط الأدب بالتاريخ وبالفلسفة ولكن بقيت الصدارة للخطاب الديني ، وصرنا أمام أساتذة يشبهون الأئمة وأئمة يشبهون الأساتذة .
وأمام تردي الأوضاع الاقتصادية وسوء الأحوال المعيشية وانهيار المعسكر الاشتراكي وتجذر النزعة الشعبوية وهشاشة القطب الديمقراطي ،كان الخطاب الديني المتطرف على استعداد تام ليتلقف الثمرة الناضجة قبل غيره .
ولكن ما حقيقة الدولة الإسلامية الموعودة ونحن نخطو الخطوات الأولى في القرن الجديد ؟
إن المنطلق الإيماني ظل على مر الزمن يمارس حضوره التبريري فلا يرى التناقضات لا بين المذاهب المعروفة ، ولا بين الفرق الإسلامية أحيانا ،حتى صارت الشريعة في نهاية المطاف رصيدا من الاجتهادات والتأويلات البشرية وإن هي جعلت من النص المقدس محورها الدائم .
حين نبحث في التاريخ العربي الإسلامي عن نموذج يصلح بديلا عن الديمقراطية ، عن دولة ومؤسسات ولو تحتكم إلى الشورى بمعناها الديني المحدود ، فإن ذلك لا يوجد إلا في بعض المبادئ العامة الفضفاضة . فإذا سألت عن مدى حظها من التطبيق عبر التاريخ العربي الإسلامي أو إذا نبشت ما حصل من انحرافات رافقت الدعوة الإسلامية منذ ظهورها ، فإن الإجابة الجاهزة - دوما - هي أن النص الإلهي المقدس شيء والممارسة البشرية غير المعصومة من الخطأ شيء آخر .
وتأسيسا على هذا المنطق ، فإما أنه لا يوجد أي نموذج يمكن أن يُحتذى ، وإما أن النموذج المزعوم مثال نظري يستحيل تطبيقه فلا يعدو أن يكون فكرة وهِْمية تطاردها الأذهان.
نحاول من خلال الفصول التالية أن نقف على الهوة الفاصلة بين النظرية والممارسة في التجربة الإسلامية معتمدين على وقائع تاريخية وعلى باحثين إسلاميين مشهود لهم بكفاءتهم في هذا المجال .
الفصل الأول
نظرات في التراث
ربما لم يسبق للتراث أن حظي بالاهتمام الذي حظي به في القرن العشرين. فقد أصبح جزءا لا يتجزأ من المعركة المصيرية التي خاضتها حركات التحرر ثم من أجل الاستقلال ثم من أجل كسب المعركة الحضارية.
وبالنظر إلى أن الهدف كان مشتركا حين كانت المقاومة ضد عدو مشترك هو الاستعمار العسكري، فإن الخلافـات لم تظهر على السطح بالقوة التي ظهرت بها لاحقا.
ولكن ما أن صحا الجو من الأجنبي الدخيل وطُُرح السؤال المصيري عن كيفية بناء الوطن المستقل حتى طفت إلى السطح كل الخفايا والخبايا. وصارت النظرة إلى التراث محكومة بطبيعة تكوين الفرد وموقعه الاجتماعي وانتمائه السياسي/ الأيديولوجي.
ويمكن أن تمييز ثلاثة اتجاهات كبرى:
1- القراءة الماضوية
وهو الاتجاه الذي اكتسى ثوبا دينيا في البداية، ومنذ ظهور الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر.
فلقد كانت هذه الحركات في جوهرها ردّ فعل ضد المحاولات الاستعمارية الرامية إلى تشويه تاريخ الشعوب المستعمَرة، ولم تكتفِ بالجيوش المدججة بالأسلحة ، بل كانت تحتاج ـ في الوقت نفسه ـ إلى نخبة من المثقفين ينيرون للاستعمار معالم الطريق ويستهدفون إلحاق الشعوب المغلوبة بهم تُبَّعا لا أكفاء. ومن هنا كان للحركة الإصلاحية فضل لا يُنْكر من حيث مساهمتها في الحفاظ على التراث سواء بنشر التعليم أو بالتوعية وسط الجماهير . وقد استغلت في ذلك الشعور الديني المخزون والشعور بضرورة رفع الظلم ومحاربة أنواع الاستغلال التي فُرضت على الناس دهرا طويلا.
ولابد من الإشارة إلى ما يوجد داخل الحركة الإصلاحية ذاتها من تمايز بين زعمائها من حيث الشدة واللين في الموقف من الاستعمار.
فلمّا نبّه السلطانُ "جمال الدين الأفغاني" إلى أنه لا يجوز له أن يلهو بسبحته في حضرة السلطان، ردّ بكل شجاعة قائلا: (( يا سبحان الله ... إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الأمة على هواه،وليس من يعترض منهم ، أفلا يكون لجمال الدين حق أن يلعب في سبحته كيف يشاء))(1)
وفي موقف آخر صرخ في وجه الشاه الإيراني قائلا:
(( الفلاح والعامل والصانع في المملكة، ياحضرة الشاه أنفع من عظمتك ومن أمرائك، لا شك يا عظمة الشاه أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكا عاش بدون أمة ورعية ))(2)
ولا شك أن هذه الجرأة النادرة لدى الأفغاني فضلا عن علمه، هي التي منحته هذه المكانة المتميزة بين زعماء الإصلاح.
وإنه ، وإن كان "محمد عبده" لا يقلُّ علما وإيمانا، إلا أن مواقفه طبعتها بعض الليونة أعابها عليه كثيرون.
فهو كان يؤمن بالإصلاح التدريجي عن طريق التربية والتعليم حتى إنه قال :(( إن العمل لإخراج الإنجليز من مصر عمل كبير جدا، ولابد في الوصول إلى الغاية منه، من السير في الجهاد من منهاج الحكمة والدأب على العمل الطويل ولو لعدّة قرون ))(3) .
فهذا القول بقدر ما يتضمن إيمانه بضرورة إخراج الإنجليز، إلا أنه ينطوي على شيء من اليأس من إخراجه في زمن قريب.
فما عساه سيكون مصير" مصر" لو آمن الثوار بفكرة التأنّي ولو استغرق الأمر قرونا عديدة ؟!
ولكن بالرغم من هذا التفاوت الذي ليس سوى نموذج، إلا أن الحركة الإصلاحية في مجملها قد قدمت خدمات جليلة بشأن التراث، ولكن بعد حصول البلدان على استقلالها لم تبقَ المطالب واحدة، ولم تعد النظرة إلى التراث ـ مقرونة بالاستعمار بصفته مهدِّدا ، وكان لابد من مواكبة الظروف المستجدَّة.
ويمكن القول إن تهديد الهوية والتراث استمر ولكن بأشكال أخرى؛ واستمر الاتجاه الماضوي الديني يقاوم ويمارس تأثيره في الذهنيات.
وبرز قادة في الفكر كبار، حاولوا أن يواجهوا " الغزو الثقافي" وحالة الانبهار بالمكتشفات العلمية الكاسحة، واستندوا إلى منطق ظاهره توفيق بين العلم والدين، وباطنه تعالي الدين ومعصوميته.
ولعل أبرز من جسد هذا الاتجاه بمنطق لا يخلو من ذكاء هو "سيد قطب" حيث يقول في الظلال:
(( إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني ـ أيّا كانت الأدوات المتاحة له ـ فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيّدة بحدود، فمن الخطأ المنهجي ـ بحكم المنهج العلمي ذاته ـ أن تعلق الحقائق النهائية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري ))(4) .
ويبدو أن هذا النص يمثل أرقى ما يمكن أن يصل إليه الاتجاه الديني في محاولته الاعتراف بالعلم والاستفادة منه، ولكن بشرط دائم وهو أن تبقى السيادة للدين، وحتى ما كان مفيدا من العلم ، فإن غايته القصوى ستؤول إلى خدمة الإنسان الذي ـ بالضرورة ـ ينبغي أن يخدم الدين.
وهذا المنطق الذي يعتمده " سيد قطب" أرقى بكثير ـ في خدمة الدين ـ من ذلك التفكير الساذج الذي يسعى دوما إلى مقارنة المكتشفات العلمية بالنص المقدّس على نحو يثير السخرية والخجل عند إعمال العقل. وليس بعيدا عن الاتجاه الديني، ذلك الاتجاه الذي يتخذ غلافا قوميا، ويستند إلى مقولات صارت معروفة اليوم كالنهضة والإحياء والبعث واليقظة وكلها مصطلحات تنطوي على اعتراف ضمني بأن النهضة إنما تكون للجالس أو المُتمدِّد والإحياء والبعث إنما يكونان للميّت، واليقظة للنائم .
وكأن هذه المفاهيم انطلقت من حكم مسبق على الأمة بأنها ميّتة وأن التراث ميّت وأنه لابد من السعي نحو البعث والإحياء.
وإن هذا التوجه القومي ـ كما يمارس في بعض السياسات ـ لا يخلو من نفَس عنصري، يرتكز على تمجيد الماضي والتغني بمآثره.
وهذا بدوره لا يعدو أن يكون ردّ فعل عاطفي على أسطورة توزيع الحضارات وعلى المركزية الأوروبية بالذات.
فتفوّق الآخر قد ولّد ترسانة من الأفكار لتبرير مسعاه ومنها:
· أنه الوريث الشرعي للحضارتين اليونانية والرومانية.
· أن الحضارة العربية الإسلامية لم تكن سوى وسيط أدّى الأمانة إلى أهلها وربما ساهم في تشويهها
· أنه متفوق في العلم والتكنولوجيا وقدره أن يتكرم على المتخلفين بهذه الإنجازات.
· وإن قيامه بتوزيع الحضارة واجب يمليه الضمير الإنساني لا غير.
· إذا تحتّم الأمر ولم يفهم المتخلفون لغة الحضارة ـ وهم بالتأكيد يصعب عليهم فهمها ـ فإن الضمير الإنساني يُمْلي على المتحضر العالِم العارِِف أن يستعمل كل الوسائل الممكنة لإنقاذ البشرية وتطويرها.
ويجيب خصوم المركزية الأوروبية بمسوغات أخرى تمليها مركزية شرقية ويمتزج فيها الديني بالقومي بالماركسي فيقال مثلا:
· حضارتنا روحية نقية، وحضارتهم مادية دونية.
· حضارتنا تعنى بطهارة الإنسان، وحضارتهم تدنس الإنسان وتنزل به إلى أسفل درجة من الفساد الأخلاقي.
· لولا فضلُنا عليهم لما وَصَلت إليهم علوم الأولين.
· أحسن حصانة لنا أن نبعث تراثنا مع الاستفادة من تراثهم فـ " الرجوع إلى الأصل فضيلة " " وليس بالإمكان أبدع مما كان". " وكل خير فيما اتبع وكل شر فيما ابتدع".
إن كُلا من الاتجاهين الديني والقومي لم يبحثا التراث قصد المعرفة العلمية الخالصة، بل كان التحزب السياسي هو الغالب والموجّه، ومهما نشهد من خلاف بينهما قد يصل إلى التناحر السياسي، إلا إنهما من حيث الغاية يلتقيان في تغييب الأسس المنشودة في البحث.
وإن خطاب النهضة يبدو كَمَن وقع بين فكيّ كماشة، يتحرك باتجاه الإسلام بوصفه مرجعا ويتحرك باتجاه آخر فيتغذى من علومه وأفكاره لتفسير الإسلام ودعمه. ويعبر "نصر حامد أبو زيد" عن هذا المعنى بقوله :
(( وكان التوفيق بين طرفي المعادلة هو أساس مشروع النهضة، سواء تحركت المعادلة في اتجاه الإسلام بوصفه أساسا مرجعيا لتقبل الوافد الغربي أو تحركت في اتجاه الوافد الغربي لجعله معيارا لسلامة فهم الإسلام ولمشروعية تأويله ))(5).
فالتراث بالنسبة لخطاب النهضة مرجع للتعامل مع المدنية الغربية، والمدنية الغربية بالنسبة للسلطة تمثل إطارا أيضا لتأويل النصوص الدينية . ولكن السلطة عادة ما تختزل هذه المدنية في التكنولوجيا كما يوضح حامد أبو زيد في موضع آخر قائلا:
(( وإذا كان خطاب النهضة قد جعل " التراث" إطارا مرجعيا لتقبل المدنية الأوروبية الحديثة، فقد جعلت السلطة من المدنية الأوروبية المختزلة في التكنولوجيا ـ إطارا لتأويل النصوص الدينية ))(6) .
فأما "حسين مروة" فإنه يقيم خطاب النهضة على النحو التالي:
(( وبهذه الصفة كانت العودة إلى التراث أشبه بالنزعة الرومانسية من حيث كونها رجعة إلى الماضي بذاته بصفته " الماضوية" المطلقة، رجعة مشحونة بالعاطفة حبّا للماضي بذاته وتمجيدا لكل ما يأتي به الماضي دون تمييز أو تمحيص . لقد وصفنا هذه الظاهرة سابقا بصيفتين متناقضتين: برجعية مضمونها. وتقدمية دوافعها. فهي رجعية من حيث تمجيدها الماضي بوجه مطلق، وهي تقدمية من حيث كونها حفزا للمشاعر القومية في سبيل انبعاث " الشخصية" العربية لمواجهة التحدي المزدوج : الطوراني العنصري التركي والغربي الإمبريالي المتحفّز يومئذ لتقاسم تركة "الرجل المريض))(7).
وبالرغم من أن رأي " حسين مروة " يأتي في إطار سياسي صارخ ومادته المصطلحات السياسية التي شاعت إبان الصراع التقاطبي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، إلا أنه لا يخلو من تفطّن إلى ظاهرة التململ التي كانت تعانيها حركة النهضة.
ولذلك لم تستطع أن تضيف شيئا ذا قيمة إلى التراث بقدر ما بقيت تراوح مكانها تكرارا واجترارا فكانت بذلك تفقده الحياة عوض أن تبعثه ، ولقد تأكد هذا لدى الأدباء عامة وفي الشعر على وجه الخصوص، يقول : (( اتخذت حركة العودة إلى التراث، في تلك المرحلة طابع الاسم الذي سميت به " إحياء التراث " كان الأدب ـ والشعر خاصة ـ هو الصيغة الأولى لهذا الإحياء. غير أن هذه الصيغة لم تكن " إحياء التراث" بقدر ما كانت استلابا لما بقي فيه من حياة. إذ كانت تقليدا للغته وأساليبه وصوره ومعانيه يفتقر إلى الكثير من عناصر الحياة التي اجتمعت في التراث نفسه ))(8).
إن الثنائية التي نشأت منذ عصر النهضة ولازالت تلاحقنا، هي دائما ثنائية الأنا والآخر، المركزية الشرقية والمركزية الأوروبية.
غير أن هذه الثنائية تنحرف عن الغاية المنشودة في بحث التراث عندما ترى إلى الأصالة على أنها الماضي وأن المعاصرة هي أوروبا. فحينئذ يقاس التراث بالزمن فضلا عن كونه زمنا انقضى منذ عهود. بينما التراث يسري دوما في نفوسنا ويختبئ في أذهاننا ونتنفّسه ولذلك فهو يؤثر في حياتنا وسلوكاتنا سواء وعَيْنا ذلك أم لم نَعِه.
وحين تصبح المعاصرة هي أوروبا فإننا سنكون أمام موقفين متطرفين : إما أن نرفضها جملة وتفصيلا بمبررات دينية أو قومية شوفينية ضيّقة وإما أن نقبلها بديلا لماضينا وهويتنا.
فأما إذا اتجه فريق ثالث نحو لغة الاعتدال التوفيقية ، فإنه سيفضل أن يضع رجلا هنا وأخرى هناك، ولكنه في واقع الممارسة المعرفية لا يتجاوز أساليب الوعظ والنصح والإرشاد بالدعوة إلى ضرورة التمسك بالماضي / الهوية والشخصية والإنيّة، وضرورة الاستفادة من منجزات الحضارة وخاصة في مجال العلوم والتكنولوجيا، ويعبر " غالي شكري " عن هذا الفهم بقوله:
(( على ذلك فإن طرح موضوع " الأصالة والمعاصرة" بمعنى أن الأصالة هي التراث والمعاصرة هي أوروبا يعد طرحا خاطئا ومبتورا وضارا. إذ يمكن طرح المشكلة ثوريا على أساس أن الأصالة هي الواقع بكل ما يشتمل عليه من عناصر ومن بينها التراث، والمعاصرة هي استخدام المنهج العلمي في التفكير. فلو اعتبرنا الأصالة هي الواقع بكل ما شموله وعناصره لرفضنا من التراث الشيء الكثير مما يعوق حركة الواقع وتصبح أصالتنا هي ذلك الرفض الواعي للوجه السلبي للتراث))(9).
ولكن "غالي شكري" ولو أنه يرفض الثنائية نظريا إلا انه يورد مفاهيم فضفاضة وغير محدّدة ومنها الواقع، وطرح المشكلة ثوريا، والمنهج العلمي الذي يدعو إليه ولا يحدد مواصفاته.
وهكذا ، فإنه في تقدير " محمد عابد الجابري " فإن السلفية ليست دينية فقط، بل وقد تكون استشراقية لكونها تنطلق من فكرة المركزية الأوروبية وتقرأ من خلالها التاريخ العربي الإسلامي.
ولكن هناك سلفية ثالثة، لها مرجعها الذي يعود إليها وتستقي منه على أنه السلف المعيار الذي تحتكم إليه وهو الماركسية.
وهي (( محاولة لتطبيق طريقة تطبيق " السلف الماركسي" للمنهج الجدلي وكأن الهدف هو " البرهنة " على صحة " المنهج المطبق" لا تطبيق المنهج ))(10).
ومهما يبدو من اختلاف بين القراءة الدينية والاستشراقية والماركسية في الظاهر إلا أن
(( القراءة السلفية للتراث، قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو : الفهم التراثي للتراث ، التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها : التراث يكرر نفسه ))(11).
هذا الموقف الذي عند "الجابري" قد لا يختلف فيه أحد من المتنورين معه، لكن شرط ألا نضع في كيس واحد ما تفضي إليه كل سلفية من السلفيات المذكورة.
لأن الجابري ـ وانطلاقا من أن لكل سلفية مرجعا تتكئ عليه ـ يبدو وكأنه يرى إلى هذه المراجع وكأنها واحدة لا تمايز بينها، فهو يقول:
(( الفكر العربي الحديث والمعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزِّه الماضي وتقدسه وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل وإذا كان ينطبق بوضوح كامل على التيار الديني فهو ينطبق أيضا على التيارات الأخرى باعتبار أن لكل منها سلفا تتكئ عليه وتستنجد به. وهكذا يقتبس العرب جميعا مشروع نهضتهم من نوع الماضي، إما الماضي العربي الإسلامي وإما الماضي الحاضر الأوروبي، وإما التجربة الروسية أو الصينية أو ... والقائمة طويلة )(12).
فإذا كان هذا الكلام سليما على المستوى المنطقي المحض، فإن ما يلفت النظر فيما يقول الجابري نفسه هو " نوع الماضي" . وعندئذ فإن الذي يتحرك تحت مظلة الماضي الديني يشد عربة المجتمع إلى الوراء، يتوهم أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة وكأنه ظل الله في الأرض، ولذلك هذا النموذج سينتهي حتما إلى معادة الديمقراطية والحوار الثقافي والمعرفي وقد يؤول إلى ممارسة أبشع أصناف العنف.كما انتقل الإخوان المسلمون في مصر من المصحف إلى الديناميت .
بينما الذي يستقي من مرجع غربي قد يساعد على تكريس التبعية ـ وهذا توجه مرفوض ـ ولكنه أيضا قد يكون نافذة تنويرية تصطنع مناهج متقدمة تعين على مزيد من الكشف والإبداع.
ألم يكن للمستشرقين دور ريادي كبير في خدمة التراث العربي الإسلامي بالتحقيق وتأليف الموسوعات والسبق إلى طرح الأسئلة الجديدة المحيّرة ، ولولا جهودهم لكانت قد ضاعت منا كنوز من التراث غالية ؟؟
ألم تكن أسئلة المستشرق الإنجليزي " مرجوليوث " ومنهج الشك الديكارتي هي جعلت " طه حسين" يهتدي إلى المغَيَّب مما كان ينبغي بحثه في الشعر الجاهلي؟ ثم كان من نتائج تلك الضجة التي أثارها كتابه " الشعر الجاهلي" أن أصبحنا نعرف عن هذا الموروث الشعري أكثر مما كنا نعرف من قبل .
أو ـ على الأصح ـ أصبحنا نقرأه بعين أخرى أكثر يقظة وحذرا، وإنه ، وإن لم يكن التيار الديني قد عجز عن إسكات " طه حسين" بل أصبح لاحقا يلقّب عميد الأدب إلا أنه ـ على العكس ـ تمكن من إسكات " علي عبد الرزاق " الذي كتب "الإسلام وأصول الحكم" بالرغم من أنه أزهري وكان قاضيا معروفـا . وأسكته إلى الأبد وربما ضاع معه فكر نيّر لو أتيح له البقاء والانتشار منذ العشرينيات لكُنا اختصرنا على أنفسنا مدة من الزمن كبيرة .
ومن المعروف بالنسبة "للسلفية الماركسية" أنها حوربت بشراسة في البلدان العربية سواء من قبل التيار الديني أو التيار القومي، ولكنه لولا قوة هذا المرجع لـما استطاع المنهج الماركسي أن ينفذ إلى أفكار كثير من الباحثين الذين حوَّلوه إلى أداة فيها شيء من الإسقاط والعسف نعم، ولكن سمحت أيضا بشحذ الوعي وبالكشف عن خفايا عديدة، دينية وغير دينية.
وهكذا ، فإنه بالقياس إلى وجود مرجع بالنسبة لكل سلفية أمر بديهي، وقد يخدع هذا المنطق بوجود التماثل بينها وربما التطابق، ولكن ـ في الواقع وبالنظر إلى النتائج ـ فإن كل إناء يرشح بالذي فيه.
والجابري نفسه لا يمكن أن نتصوره بلا مرجع ولو ادعى ـ نظريا ـ أنه يتعالى على كل المراجع المذكورة والموسومة بالسلفية ليؤسس لنفسه مرجعيته الخاصة.
حقا إن التيار الديني والماركسي والمركزي الأوروبي قد تأسس كل منها على قاعدة سياسية وكان العامل السياسي حاسما في انتشارها، وهي جميعها تستهدف الهيمنة، إلا أنه مع تضعضع المعسكر الاشتراكي وانحسار المد الشيوعي، انتعش التيار الديني أكثر وانتقل من العنف الفكري إلى ممارسة العنف الجسدي، ولبست المركزية الغربية ثوب العَوْلمة، وذلك سيؤدي لا ـ محالة ـ إلى مراجعة بعض المعطيات والمفاهيم في التعامل مع التراث.