ESSAI DE MAKHLOUF AMEUR : Deuxième partie

Publié le par Mahi Ahmed

ESSAI DE MAKHLOUF AMEUR : Deuxième partie

 

 2- القراءة التوفيقية:

    التوفيق مصدره في الأصل أن يُطرح أمام المرء خياران لا يستطيع أن يفرّط في أحدهما، إما لأنه لا يريد أن يتحمل المسؤولية كاملة حتى لا يندم على ترك أحدهما، وإما أنه يدرك عن قناعة بأنهما مفيدان معا ولابد من الاستفادة منهما معا.

    وبهذا المعنى فإن النزعة التوفيقية ليست جديدة في التراث العربي الإسلامي، فمن الشيعة من قالوا إن حقيقة الدين إنما تدرك بالكشف الباطني ومن هنا عوّلوا على النخبة من الأئمة، وأن الإمام الذي يوهب هذه القدرة السماوية هو الذي يصبح الوارث الحقيقي لعلم النبي.

   وفي الوقت الذي يُتَّهم فيه بعض هؤلاء بالتطرف ونكران النبوة، يحرص أهل السنة على الممارسة العملية أسوة بالرسول .

   وقد انقسم السنة إلى مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، أو أنصار النقل وأنصار العقل.

فبينما كانت الشيعة من الذين ذكرنا يغرقون في الـلاعقل، كان المعتزلة ـ بالعكس ـ يمنحون الصدارة للعقل، وحتى لا ينجر الناس خلف أحد التيارين في تطرف واضح، فإنه كان لابد من البحث عن حل وسط، عن صيغة تضمن الالتقاء بينهما تفاديا للاصطدام.

ولكن الذي أبرز هذا الصراع بين النقل والعقل على نحو أوضح هو الصراع بين الجبرية والمعتزلة.

        فقد كان الجبرية يرون أن الإنسان ليس حرّا فيما يقوم به، بل إن القدرة الإلهية هي المسؤولة على أعماله . بينما كان القدرية ثمّ المعتزلة بعدهم، يعترضون عليهم بأنه لولا الحرية التي منحت للإنسان ويمارسها بواسطة العقل لما كان عقاب وجزاء.

وجاء بين الموقفين الأشـاعرة ليلعبوا دور الوسيط التوفيقي، فرأوا أن الإنسان ليست لديه القدرة على الفعل قبل حدوثه ولا بعد حدوثه. ولكن الله يخلق القدرة للعبد لحظة الفعل فقط، وهو ما اصطلحوا على تسميته بالكسْب، فهم كانوا يخشون أن تعطى للعقل القدرة المطلقة فيؤدي ذلك إلى إلغاء الإيمان. يقول الجابري بهذا الصدد:

(( فبرز أهل السنة كقوة ثالثة بديلة. فكان الانقلاب السني على المعتزلة في عهد المتوكل وتركز الصراع بين معسكر " النقل"ومعسكر"العقل" بين القوى الرجعية والمحافظة صاحبة النفوذ والسلطة وبين القوى المعارضة، القوى الاجتماعية الصاعدة المتطلعة إلى بناء دولة العقل والإخاء والعدل. ولقد  كانت الفلسفة هي الناطقة باسم هذا المعسكر الأخير ))(13).

فأما في العصر الحديث ، فإن الأوضاع قد فرضت منطقا جديدا للتوفيق. فأدى التقاطب بين الرأسمالية والاشتراكية إلى استعمال الدين تبريرا لانتهاج طريق ثالث (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)).(14)

أن هذه الوسطية أو التوفيقية تعبر عن حالة من إرادة التميز عن الآخر. وإن معاناة الشعوب المغلوبة مدة طويلة من الزمن هي التي أفرزت نخبة من المثقفين والباحثين لا يثقون فيما يأتي من الخارج.

ولعل توجيهات المستشرقين على اختلافها أن تكون ساهمت إلى حد كبير في زرع الشك والحذر في نفوسهم رغم ما يحمد للمستشرقين من جهود.

ويلخص " حسين مروة" توجهاتهم في أربعة.

1.    فريق منهم ينطلق من أساس عِرْقي، لا يرى في العرب أكثر مما رآه بعض الشعوبيين قديما. فهم نتاج بيئة بدوية قاحلة لا يمكن أن يكون لأهلها إمكانات عقلية وفكرية تؤهلهم إلى أن يكونوا قادة حضاريين. وليس يخفى ما في هذا المنطق العنصري من عشوائية وتعميم، بحيث لا يمكن لعاقل أن يطمئن إلى نتائجه في البحث العلمي.

2.    فريق لا يظهر المنطق العنصري بشكل صارخ. ولكن يغلِّفه بفكرة مخادعة وهي في جوهرها لا تختلف عن الأول. إنها المركزية الأوروبية التي تجعل من أوروبا مركز الإشعاع الحضاري . وتجعل من الحضارتين اليونانية والرومانية مصدرا أصليا لها. لتقفز على الحضارة العربية الإسلامية لأن دورها لم يتعدَّ دور ساعي البريد الذي أدى الأمانة إلى أهلها.  

والقول بمركزية أوروبية ظهر ـ في الواقع ـ قبل أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية قوة مهيمنة على العالم. وبذلك أخذت تدريجيا تحل محلها المركزية الغربية كي لا تستثنى أمريكا من الإشعاع المركزي ، بل إن أوروبا ذاتها قد لا تعدو اليوم أن تكون واحدا من الأطراف.

   وفي إشارة " هيجل " إلى الفلسفة الشرقية. رأى أن أبرز ما فيها هو التصورات الديينية التي تجعل منها فلسفة فقال: (( إن ما نطلق عليه اسم الفلسفة الشـرقية يشكل بالأسـاس ـ إلى حد كبير جدا ـ الطريقة الدينية للتصورات والآراء الدينية لدى الشعـوب الشرقية، وهذه التصـورات والآراء  التي تفهم أهم وهلة أنها  فلسفة ))(15) .

3.    وركّز فريق من المستشرقين على الجانب الغيبي في الفلسفة العربية الإسلامية فاهتموا ببعض المتصوفين أكثر من اهتمامهم بالجوانب المضيئة في التراث.

4. بقي فريق رابع ابتعد عن الاتجاهات السابقة ونظر إلى الحضارة الإنسانية في مجملها دون تمييز عرقي أو تحزب لمعسكر معيّن . ومن هؤلاء " ريتشارد فالتزر" الذي يعترف بأن الفحص الموضوعي لحقيقة الفلسفة الإسلامية لم يحن وقته بعد. لأن أمورا عديدة لا تزال مجهولة وتقتضي الموضوعية شيئا من التريّث لتقديم دراسة وافية عنها، يقول عنه " حسين مروة :

(( وقد اعترف "فالتزر" بأن لم يَحِنْ الوقت ـ بعد ـ لكتابة تاريخ نهائي للفلسفة الإسلامية. فلم تصل معرفتنا بهذه الفلسفة درجة من النضج والإحاطة تسمح لنا بالقيام بمثل هذه المحاولة الضخمة فهناك حقائق عديدة مازالت مجهولة، وهناك مؤلفات عديدة أهملت قرونا))(16).

      وبما أنه من المُسَلم به نظريا ، ألا نفرّط في التراث وألا ننغلق دون الفكر الإنساني، فقد اجتهد كثير من الباحثين في التوفيق بين العلم والدين وبين الدين والفلسفة وبين المادية والمثالية . بحيث يبدو أن هؤلاء ما زالوا يعيدون محاولة "ابن رشد" في سعيه إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة في كتابه المعروف " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" . هذه المساعي للمصالحة مازالت قائمة سواء أكانت هذه المصالحة ممكنة أم مستحيلة.

فتحت ضغط الأفكار الوافدة من المعسكر الاشتراكي من جهة، وتلك الآتية من التيارات الدينية المعادية له من جهة ثانية، توجه فئة من الباحثين ـ عن قناعة أو مضطرين ـ إلى بحث التراث من منظور إقـامة المصالحة بين الاشتراكية والإسلام.

وشهدت الساحة الفكرية  منذ الخمسينيات اجتهادات تسعى إلى تضييق الهوة بينهما عن طريق البحث في التاريخ العربي الإسلامي عما يصلح أن يكون بذورا جنينية للاشتراكية.

بهذا تعرفنا على شخصيات تمثل " اليسار الإسلامي " وصارت رموزا تدعم التوجه الاشتراكي مثل: أبي ذر الغفاري وعلي بن أبي طالب وغيلان الدمشقي والحلاّج وغيرهم.

وتعرفنا على حركات " ثورية " قاومت السلطة القائمة دفعا للظلم والاستغلال وأملا في تحقيق مجتمع يسوده العدل والمساواة . فكانت حركة القرامطة وثورة الزنج والبابكيين معادلا رمزيا لانتفاضات العمال وامتدادا طبيعيا لثورة سيارتاكوس...الخ .

     لكن المحرك الأساسي في هذا المسعى كان دوما محركا سياسيا . ولذلك كثيرا ما تميزت هذه البحوث بشيء من السطحية قد تبلغ أحيانا درجة من السذاجة فتعطي نتائج عكسية.

إذ كان أنصار التيار الإسلامي يستفيدون من هذا التوجه التوفيقي منطقيا. فمادام لا يوجد تعارض بين الإسلام والاشتراكية، فما الداعي لاستيراد فكر غريب عنا، وهو من إنتاج بيئة أخرى وظروف أخرى؟ إن الإسلام في هذه الحالة يكفينا ويكفي غيرنا مادام دستورا ربّانيا يصلح لكل زمان ومكان وجاء للبشرية جمعاء.

فالماركسية التوفيقية كانت بقصد سياسي ، وبلا وعي معرفي، تسلح التيار الديني بأمضى سلاح وهو أن تنفخ في روحه من جديد فتجعله اشتراكيا ومعاصرا، وهو يأبى أن يكون كذلك لأنه يستهدف أن يَجُر الآخرين إليه ويحتويهم ويسوقهم في الطريق الذي يريده، فيزداد غطرسة واستعلاء.

والفكر القومي ـ بدوره ـ وجد نفسه محاصرا بين العالم المتقدم علميا وتكنولوجيا وبين ضغط التيار الديني والمد الشيوعي، ولأنه يسعى إلى تحقيق نوع من الخصوصية والتميّز فقد حاول أن يتغذى منها جميع ليختلف عنها جميعا.

ولجأ إلى مقاومة " الغزو " والتعويض عن طريق التغنّي بالأمجاد الضائعة والعمل على بلورة عروبة خالصة. فيتوجه إلى كل من خصومه بمنطق الخصم الآخر.

ويرسم " مهدي عامل"(17) صورة لهذا المنطق القومي حين يتوجه إلى خصْمه الماركسي بالحجج التالية:

أ -    الماركسية ظهرت في بلدان كانت قد حلّت مشكلتها القومية، فأما أن تتسرب إلينا نحن اليوم ، فذلك مما يزيد الأمة فرقة وتشتّتا.

ب -    وظهرت في بلدان كانت فيها الطبقة العاملة قويّة متماسكة، فإذا هي دخلت عندنا في غياب هذا المعطى فإنها تكون جسما غريبا.

ج -    إن الخط القومي مرحلة ضرورية قبل التفكير في أيّ بديل آخر، نظرا لأن الأمة منقسمة على نفسها ولا يمكنها أن تواجه العدوان المتزايد إلا بالوحدة والتماسك.

د -    إن في تراثنـا وفي تاريخنا ما يغنينا عن البحث عن حلول لدى غيرنا أيا كانت الجهة الخارجية.

وكما استفاد التيار القومي من خصميه الديني والغربي في تحقيق التميّز فقد استفاد أيضا وبصفة عملية من التيار الماركسي في مقارعة خَصْمَيْه الآخرين. واستطاع أن يضم إليه مثقفين ملتزمين وفق التصور الذي وضعه "غرامشي" والذي يميز فيه بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي.

(( إن غرامشي باستخدامه مفهوم المثقف التقليدي لتحليل مختلف الصراعات في داخل نمط واحد من الإنتاج يطبق هذا التحليل على جميع المثقفين الذين يرتبطون عضويا بطبقات زائلة أو في طريقها إلى الزوال. ومفهوم التقليدي يوضح تحديد الفئات التي يستوجب على الطبقة المتقدمة تاريخيا أن تتمثلها لكي تمارس الهيمنة على مجمل الطبقات الاجتماعية التي يتألف منها المجتمع))(18).

إلا أن هناك عاملا حاسما لابد من ذكره ويتمثل في اصطدام الأفكار الوافدة بحركة التحرر الوطني في معظم البلدان العربية، الأمر الذي رسخ فكرة توظيف المعرفة من أجل الإصلاح والتغيير والثورة.

ولهذا وجد فكر " غرامشي" أرضية خصبة زادت من انتشاره التنظيمات السياسية وخاصة في أوساط الباحثين والمفكرين.

وبما أن المثقف يتحدد من خلال انتمائه لطبقة زائلة أو متقدمة، وبالمكانة التي يشغلها داخل الصيرورة التاريخية ، فإن المثقف العربي كان يهمه أن يرتبط بها ارتباطا عضويا، وهو الذي يحمل وظيفة الهيمنة التي تمارسها الطبقة المسيطرة في المجتمع المدني.

وهو الذي ينظم الإكراه الذي تمارسه الطبقة السائدة بواسطة الدولة ، لأنه يشكل إطارا في الجهاز الإداري والسياسي والقضائي والعسكري.

وهكذا ، كلما عبر المثقف عن إخلاصه للطبقة التي ينتمي إليها، كلما ضاعف التزامه بخدمة مصالحها بأن يعمل على إيجاد تصور منسجم للعالم وأن يرتبط بالتنظيم الذي يمثل هذه الطبقة.

    و لا يمكن لعاقل أن ينكر الجهود التي بذلها المثقفون خلال القـرن العشرين والتي أثمرت بحـوثا مهمة في سائر الميادين ولعبت ـ لا شك ـ دورا تحرريا وتنويريا له قيمته الكبيرة بالقيـاس إلى الظروف التي عـاشوا فيها.

لكن لا يصح أن نتغافل عن الطبيعة المعرفية لتلك الجهود، والتي بقيت محدودة أو تجاوزتها الأحداث الفكرية اليوم، بسبب أنها كانت تتحرك بحماس تحت مظلة الخطاب السياسي المتحزّب. فكانت ترقب النتائج الآنية وتتعجّلها فاتسمت بالسطحية وإلصاق الأحكام المسبقة.

هكذا صار النص التراثي فريسة بين الخصوم السياسيين، يدخلونه بأفكار من خارجه فلا يستنطقون النص فيما يقوله، بل يصبح ممرّا للعبور إلى ما يريد أن يقوله الباحث.

وفي هذه الحالة يجتهد الباحث في البرهنة على صحة ما يقوله هو، وفي سعيه هذا يتمّ ـ أصلا ـ تغييب النص موضوع الدراسة .

 

3-  قـراءات أخرى:

 

    ونكتفي - ها هنا - بنماذج معروفة في قضية بحث التراث ونتعرض لهذه النماذج من خلال المنهج المقترح لدى كل منهم، علما بأن ما يعبّر عنه نظريا قد لا يتحقق بالضرورة أثناء الممارسة، وهذه النماذج المقترحة هي : "حسين مروة وطيب تيزيني  ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون".

 فـ " حسين مروة " كان قد طرح السؤال المهمّ منذ كتب " تراثنا كيف نعرفه " إلى أن تجسدت جهوده في " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" هذا الكتاب الذي يصفه محمود أمين العالم بأنه ملحمة فكرية.

    وهو يصرح في قضية المنهج أنه يتبنى أيديولوجية ثورية وأن (( الأيديولوجية الثورية هي أيديولوجية الثوريين في المجتمع،أي الطبقات والفئات الاجتماعية التي ترتبط مطامحها ومصالحها الطبقية والفئوية بمطالب التغيير الثوري في لحظة تاريخية معينة ))(19).

    فمنذ البداية إذن ، يعترف المؤلف بأنه يعتنق الماركسية ويستخدم المنهج الماركسي في بحث التراث ويقول عن صورة التراث في ضوء هذا المنهج:

(( أما صورة التراث في منظور المنهج المادي التاريخي، فيرى هذا المنهج خطوطها الأساسية في ضوء نظرته الجدلية إلى علاقة الحاضر بالماضي وإلى العلاقـة بين المعرفة المعاصرة بالتراث والمضمون الفكري والاجتماعي الذي يحتويه التراث ))(20 ).

يتضح من مبادئ هذا المنهج أنه لا يؤرخ لأفكار مجردة منعزلة عن سياقها الاجتماعي ، بل يؤكد أنه لا يمكن أن يوجد فكر إلا وله جذور اجتماعية . وإذا نحن لم نعرف هذه الجذور الاجتماعية فذلك لا يعني أنها غير موجودة . بل المشكلة تكمن في الأداة التي تستخدمها نحن في الكشف عن هذه الجذور.

كما أنه لابد من أن ندرك بأننا في بحث مسألة التراث ننطلق من موقع معاصر اجتماعيا وأيديولوجيا وينبغي أن نعي بأن البحث يقتضي أن ننظر إلى التراث في إطار الظروف التي أنتجته، لأن كل عزل وفصل له عن سياقه الاجتماعي والتاريخي سيؤدي حتما إلى نتائج خاطئة. يقول بهذا الصدد.

(( هذه النظرة الجدلية في مسألتنا، تعتمد على موضوعين:

الأول:  كون معرفتنا بالتراث نتاج علم وأيديولوجية معاصريْن:

الثاني : كون هذه المعرفة، رغم انطلاقها من منظور الحاضر علميا وأيديولوجيا، لا تستوعب التراث إلا في ضوء " تاريخيته " أي في ضوء حركته ضمن الزمن التاريخي الذي ينتمي إليه أو ـ بعبارة أكثر تدقيقا ـ لا تستوعبه إلا من وجهة علاقته بالبنية الاجتماعية السابقة التي أنتجته، وبالظروف التاريخية نفسها التي أنتجت ـ بدورها ـ تلك البنية الاجتماعية مع ما لها من خصائص العصر والمجتمع المعين ))(21).

واعتمادا على هذا المنهج راح "حسين مروة " يتتبع حركية الفكر العربي الإسلامي منذ ما قبل نشوء الفلسفة حتى اكتمالها في العصر العباسي ، محاولا أن يجد لكل ظاهرة فكرية جذورها الاجتماعية والاقتصادية .

لكن الذي يبقى مطروحا هو إلى أيّ حد نجح الباحث في تطبيق المنهج الذي صرّح به نظريا أولا، وثانيا إلى أيّ حد يمكن أن يوصف المنهج الماركسي بأنه منهج علمي وهو لا يخفي انتماءه الأيديولوجي ؟

إن الإجابة على هذين السؤالين تقتضي ـ بالدرجة الأولى ـ دراسة متأنية ووافية للكتاب بما تتطلبه هذه القراءة من زاد فكري وثقافي الأمر الذي كان موضوع ندوات وملتقيات سبق أن نُشرت مادتها.

فأما " طيب تيزيني " فإنه يحدد مميّزات المنهج الجدلي على النحو التالي:

1-    أنه منهج يرفض الفكرة القائلة بـ " الثقافة للثقافة " أي إنّه يعترف بوظيفة الثقافة في المجتمع وأن هذه الوظيفة موجودة حتى ولو أنكرها بعض الناس ثم مادامت الوظيفة قائمة ، فإنه من الأفضل أن نجعلها في خدمة المجتمع ونجعلها خاصة في خدمة الطبقات الفقيرة والمستضعفة .

2-   ويؤكد على الحذر من ترك البحث العلمي مضطربا وغير خاضع لضوابط منهجية منسقة.

3-   أنه منهج يرفض العفوية، وهذا العنصر لا يختلف في الواقع عن سابقه ، لأنه لا فرق بين رفض الاتجاه العفوي وبين التأكيد على أن يخضع المنهج الجدلي لضوابط منسقة.

4-   أنه منهج يرفض التجريبية التي تكتفي بالتجريب والمحاولة والخطأ ، أي أنها لا تستند إلى دليل نظري كما أنه يرفض النظرة التأملية التي لا تستند إلى تجربة بمعنى أن التاريخ الإنساني قد أظهر أن التجربة وحدها لا تكفي وأن التأمل وحده لا ينفع أيضا . فمن المطلوب أن تكون النظرية مقرونة بالممارسة وأي منهما لا تستقيم في غياب الأخرى.

ثم يحدد الخطوات الأساسية لهذا المنهج ويقول أنها تتمثل فيما يلي:

1-    الملاحظة .

2-   الاستقراء  : ( الانتقال من عناصر جزئية إلى نتائج كلية ).

3-   التركيب :  والمقصود به أن يكون تتويجا لعملية الاستقراء.

4-   الفرضية : وهي تدخل في إطار التعليل لما تحقق.

5-   التحقق : أي التأكد من صحة الفرضية المطروحة.

6-   اقتراح الحلول وهو نفسه يكوّن فرضية علمية.

ولا يختلف "طيب تيزيني" عن "حسين مروة"  في كونه ينطلق منطلقا أيديولوجيا وماركسيا على وجه التحديد .

وهو يعرّف الأيديولوجيا كالتالـي:

((فالأيديولوجيا هي مجموع الأفكار والتصورات التي تدخل في نطاق بحث العلوم الإنسانية والفلسفية ( مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الجمال والاقتصاد السياسي والفلسفة والأخلاق والدين )، أي أنها أي الأيديولوجية تشكل الوعي الاجتماعي ما عدا جوانبه التي تدخل في نطاق بحث العلوم الطبيعية والتكنولوجية ( مثل الفيزياء والجيولوجيا والكيمياء والبيولوجيا) ولذلك يبرز هذا الوعي الاجتماعي باعتباره أشمل مفهوم يحتوي كل أوجه النشاط الفكري النظري الإنساني))(22).

     وقد بحث "طيب تيزيني" في ضوء هذا الفهم جزءا من التاريخ العربي الإسلامي في كتابه " مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" وواصل البحث في مشروع أضخم منه بعنوان " من التراث إلى الثورة " لكن تبقى نفس الأسئلة مطروحة وهي المتمثلة في إطلاق صفة العلمية على المنهج الماركسي ومدى قدرة الباحث على أن يحقق في ممارسة البحث ما أعلنه على المستوى النظري.

   وفي كل الحالات تُعَد جهود "طيب تيزيني" كما هي جهود" حسين مروة" جهودا متميّزة كشفت عن كثير من المسائل الخفية وأثارت مناقشات مستفيضة. وطبيعة البحث ـ مهما يكن ـ يكفيه أحيانا أن يثير أسئلة جديدة.

   وننتقل إلى المنهج الذي يعتمده "محمد عابد الجابري" والذي يحدد خطواته في كتابه المعروف " نحن والتراث" الذي يعتبره من خلال العنوان الفرعي " قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي" .

وهو حريص على تقديم قراءة معاصرة انطلاقـا مما لاحظه من أن الفلسفة الإسلامية لم تحْظَ بقراءة متواصلة ومتجدّدة خلافـا للفلسفة اليونانية والفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة يقول:

(( وأكدنا القول بأن الفلسفة الإسلامية في نظرنا لم تكن قراءة متواصلة ومتجدّدة باستمرار لتاريخها الخاص كما هو الشأن بالنسبة للفلسفة اليونانية والفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، بل كانت قراءات مستقلة لفلسفة أخرى هي الفلسفة اليونانية قراءة وظفت نفس المادة المعرفية لأهداف أيديولوجية مختلفة متباينة ))(23).

ويظهر من خلال عرضه للخطوات التي يعتمدها ، أنه لا يختلف عن سابقيْه سوى في الصيغة التعبيرية حيث يعطي للمعاصرة معنَيَيْن :

 الأول : أن يجعل المقروء الذي هو التراث ، معاصرا لنفسه أي قراءته في ضوء محيطه بما يحمل من محتوى معرفي ومضمون أيديولوجي.

 والثاني: أن يجعل المقروء معاصرا لنا وأن يضفي عليه طابع المعقولية (( إن إضفاء المعقولية على المقروء من طرف القارئ معناه نقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ ، الشيء الذي قد يسمح بتوظيفه من طرف هذا الأخير في إغناء ذاته أو حتى في إعادة بنائها ))(24) .

وتقتضي النظرة الموضوعية في نظره أن نخلق مسافة بيننا وبين التراث كي نتمكّن من رؤيته في محيطه التاريخي والاجتماعي وبهذا المعنى نجعل التراث معاصرا لنفسه، ولكن هذه الخطوة تتلوها خطوة أخرى هي أن نصل التراث بأنفسنا يقول :

(( جعل المقروء معاصرا لنفسه معناه فصله عنّـا ...وجعله معاصرا لنا معناه وصله بنا... قراءتنا تعتمد، إذن ، الفصل والوصل كخطوتين منهجيتين رئيسيتين ))(25) .

وفي الفصل الخاص بالموضوعية يتحدث عن خطوات المنهج ومستوياته.

        أ ـ ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث.

ويتعلق الأمر بقضية المنهج الذي ليس في الاختيار بين منهج أو آخر من المناهج الجاهزة وإنما (( المسألة الأساسية هي نقد العقل لا استخدام العقل بهذه الطريقة أو تلك ))(26).

وهو لا يعني بالقطيعة الانقطاع عن التراث أو إبقاءه في المتاحف . إنه لا يعني بالقطيعة التنكر للماضي، بل هو يقصد قطيعة إيبستيمولوجية مع بنية العقل العربي الذي مازال يفكر بذهنيات عصور الانحطاط باعتماد القياس الميكانيكي، قياس الغائب على الشاهد.

إنه يعني القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث ولا يتحقق ذلك إلا إذا انفصل الموضوع عن الذات واستقلت الذات عن الموضوع فهو يقول:

(( اندماج التراث في التراث شيء، واندماج التراث في الذات شيء آخر. أن يحتوينا التراث شيء ، وأن نحتوي التراث  شيء آخر ، القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث ، بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحوّلنا من " كائنات تراثية" إلى كائنات لها تراث)) 27.

         ب ـ فصل المقروء عن القارئ ... مشكلة الموضوعية.

ويحدد الموضوعية بمستويَيْن:

   المستوى الأول ، يتحدد بضرورة فصل الموضوع عن الذات. والمستوى الثاني، يتحدد بضرورة فصل الذات عن الموضوع . والمستويان يشترطان مع بعضهما فلا يحقق أحدهما إلا بالآخر. ذلك لأن الذات العربية منشغلة بحاضرها، مؤطرة بماضيها والإنسان العربي عندما يتعامل مع النص لا يسأله ولا يكتشف، بل إنه يتذكر ، وإنه وهو يتذكر يتوهّم أنه يفكّر ، فذهنيته اعتادت على الحفظ والتكرار وامتدت هذه الطريقة إلى المدارس وطرائق التعليم إلى أن أصبحت الدراسة عقيمة مبنية على الاعتقاد لا على النقد والانتقاد.

ويترتب على عملية الفصل والاستقلالية بين الذات والموضوع ثلاث عمليات:

        1. المعالجة البنيوية:      

يتعلق الأمر هنا بكيفية التعامل مع النص، واستثمار الدراسات اللغوية الجديدة في استنطاقه والكشف عن طرق التعبير وتسابك الجمل ليتوصل الدارس إلى الكشف عما يريده النص (( إن العملية ليست سهلة، ولكن الحرص على ربط أفكار صاحب النص بعضها ببعض والانتباه إلى طريقة ـ أو طرائق ـ التعبير لديه واستحضار مخاطبيه ... كل ذلك يجعل المهمة أقل صعوبة وأقرب منالا ))(28).

        2. التحليل التاريخي:

ويقصد به ضرورة الربط بين فكر صاحب النص ومجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية . بحيث تكون الدراسة البنيوية قد ساعدت على تبيان حدود النص ، قراءة النص تضيء المجال التاريخي وهذا الأخير يبيّن حدود النص ، يبين ما قاله النص وما كان بإمكانه أن يقوله.

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article