الاقتصاد السلعي والعمل المأجور(Cinquiéme partie)
الاقتصاد السلعي والعمل المأجور-
روزا لوكسمبورغ
المحور: الارشيف الماركسي
Cinquiéme partie
-5-
ليس في استطاعتنا أن نفسر لأنفسنا قانون الأجور الرأسمالي الذي يحدد الشروط المادية لوجود العامل إلا بادراك كل النتائج المعروضة أعلاه والمترتبة عن العلاقة الأجورية. وأول الأمر علينا أن نميز بين الأجر المطلق والأجر النسبي. والأجر المطلق بدوره يظهر بشكل مزدوج: من جهة على شكل نقد، على شكل أجر اسمي، ومن جهة أخرى كمجموع وسائل العيش التي يمكن للعامل أن يحصل عليها مقابل هذا النقد، أي على شكل أجر حقيقي. فالأجر الذي يناله العامل نقدا، قد يبقى ثابتا بل وقد يزيد. في الوقت الذي ينخفض فيه مستوى حياته، أي أجره الحقيقي. إن الأجر الحقيقي ينحو باستمرار باتجاه الحد الأدنى المطلق، باتجاه الحد الأدنى الفيزيولوجي، وبكلمات أخرى ينحو الرأسمال باستمرار لدفع ثمن لقوة العمل هو دون قيمتها الحقيقية. أما تنظيم العمال فإنه وحده الذي يشكل قطب المقاومة لاتجاه الرأسمال هذا. وتكمن المهمة الرئيسية للنقابات في زيادة احتياجات العمال والارتقاء بهم معنويا، تكمن في إحلال الحد الأدنى الاجتماعي محل الحد الأدنى الفيزيولوجي، أي في إحلال مستوى حياة وثقافة معينة للعمال لا يمكن للأجور أن تنخفض عنه لأن انخفاضها هذا سيثير على الفور رد فعل دفاعيا. وها هنا بالذات تكمن الأهمية الاقتصادية الكبرى للاشتراكية الديموقراطية: فهذه الاشتراكية الديموقراطية إذ تثير حماس جماهير العمال سياسيا ومعنويا، ترتقي بمستواهم الثقافي وبالتالي باحتياجاتهم الاقتصادية. فالعامل حين يعتاد الاشتراك في جريدة وشراء المنشورات يكون قد رفع من مستوى حياته ومن أجره بالتالي. إن لعلم الاشتراكية الديموقراطية محمولا مزدوجا حين تكون النقابات في بلد ما قد أقامت تحالفا مفتوحا مع هذا التيار وذلك لأن عداء الشرائح البرجوازية للاشتراكية الديموقراطية يحملها على إنشاء نقابات منافسة تعمد بدورها إلى إدخال تأثير التربية التنظيمية وإلى رفع المستوى الثقافي لدى شرائح البروليتاريا الجديدة. ففي ألمانيا، وغلى جانب النقابات الحرة المرتبطة بالاشتراكية الديموقراطية، تمارس نقابات عديدة مسيحية، ومن كاثوليكية وليبرالية، تمارس تحركا جيدا. والأمر نفسه يقال عن فرنسا حيث يتم إنشاء نقابات صفراء لمحاربة النقابات الاشتراكية، وفي روسيا نلاحظ أن التفجيرات الأكثر عنفا خلال الإضرابات الثورية الأخيرة التي قامت بها الجماهير تمت بمبادرة من النقابات «الصفراء» والحكومية. وفي إنكلترا حيث تحافظ النقابات على مسافة بينها وبين الاشتراكية لا تسعى البرجوازية أبدا لكي تدخل بنفسها فكرة قيام تحالف داخل الشرائح البروليتارية.
إن النقابة تلعب دورا عضويا ضروريا في نظام الأجور الحالي. فالنقابة هي الطرف الوحيد الذي يسمح لقوة العمل بأن تباع لقاء قيمتها. أما قانون السلع الرأسمالي فإنه لم يمنح من قبل النقابات فيما يتعلق بقوة العمل كما قال لاسال خطأ. بل على العكس فإن هذا القانون لا يمكن أن ينجز إلا على يد النقابات. فالرأسمالي ينحو لشراء قوة العمل بسعرٍ متدن بينما ينحو العمل النقابي إلى فرض السعر الحقيقي.
وتُمارس النقابات مهمتها تحت ضغط قوانين الإنتاج الرأسمالي الميكانيكية، مثل وجود جيش الاحتياط الدائم، والتتالي المستمر في تحسن الظروف وتدهورها. إن هذين القانونيين يفرضان على تحرك النقابات حدودا لا يمكن تجاوزها، فالتغيرات المستمرة في ظروف الصناعة تجبر النقابات عند كل انخفاض، على الدفاع على المكتسبات القديمة ضد هجمات الرأسمال، وعند كل ارتفاع على النضال من أجل رفع مستوى الأجور إلى مستوى يتلاءم مع الوضع المناسب. بمعنى أن النقابات مرغمة دائما على الوقوف عند خط الدفاع. إن جيش الاحتياط الصناعي يحد العمل النقابي في المكان: فليس ثمة من طرف يمكنه الوصول إلى التنظيم وإلى ممارسة نفوذ هذا التنظيم سوى الطبقة العليا من العمال الصناعيين ذوي الأوضاع الجيدة، الذين لا تكون البطالة بالنسبة إليهم سوى مؤقتة و«عائمة» تبعا لتعبير كارل ماركس. وبما أن الطبقة الدنيا من البروليتاريين الريفيين غير الموصوفين تتدفق نحو المدن نجد أن ثمة مهنا نصف ريفية وغير منتظمة كصناعة القرميد مثلا لا يمكنها أن ترجح كفة التنظيم النقابي أولا انطلاقا من أوضاعها المكانية والزمانية أو بسبب من بيئتها الاجتماعية. إن الشرائح الواسعة والدنيا من جيش الاحتياط، والعاطلين الذين يقومون بأعمال غير منتظمة والمشتغلين في البيوت والبائسين الذين يقومون بأعمال موسمية يظلون خارج التنظيم، وكلما زاد بؤس شريحة بروليتارية ما، كلما كان احتمال وجود ممارسة لتأثير نقابي عليها أقل حجما. فالعمل النقابي يؤثر بشكل واهن في أعماق البروليتاريا، لكنه يؤثر بشكل أفضل عند سطح الفرز البروليتاري وحتى حين لا تكون النقابات قد ضمت ولو قطاع واحد من قطاعات الشريحة البروليتارية العليا: فها هنا يمتد التأثير ليشمل الشريحة كلها، وذلك لأن المكتسبات التي تتحقق تفيد جمهور العمال المستخدمين في العمل المعني. والعمل النقابي يزيد من الفروقات داخل صفوف الجماهير البروليتارية إذ يرفع بمستوى يعلو مستوى الفقر، الشرائح العليا البروليتارية، بوصفها الطليعة القابلة للتنظيم من بين أفراد العمال الصناعيين، وينظمها ويرص لها صفوفها. وينتج عن هذا تزايد في الهوة التي تفصل الشريحة العليا من الطبقة العاملة عن الشرائح الدنيا. ولا يبلغ اتساع هذه الهوة في أي بلد من البلدان ما يبلغه في إنكلترا حيث ثمة افتقار إلى التأثير التمديني الإضافي الذي تمارسه الاشتراكية الديموقراطية عادة. على الشرائح الأكثر تدنيا والأقل قابلية للتنظيم، نفسها، أما في ألمانيا فإن مثل ذلك التأثير كبير للغاية.
حين تجري دراسة مستوى الأجور في النظام الرأسمالي، من الخطأ عدم النظر بعين الاعتبار إلا إلى الأجور الفعلية التي تُدفع لعمال الصناعة الذين يشتغلون عملا ما، كما جرت العادة حتى لدى العمال، وهي عادة مستعارة من البرجوازية ومن العلماء الذين يشتغلون لحسابها. فجيش العاطلين الاحتياطي، بدء بالعمال الموصوفين العاطلين مؤقتا وحتى أعمق أعماق البؤس والإفقار الرسمي، ينبغي أن يؤخذ في الحسبان حين يجري مستوى الأجور. فالحقيقة أن الشرائح الأكثر تدنيا التي تتألف من البائسين والمنبوذين الذين يستخدمون جزئيا أو لا يستخدمون على الإطلاق، ليست صفرا يقف خارج الحساب لدى «المجتمع الرسمي»، كما تقدمها البرجوازية بل هي ترتبط بروابط وثيقة بالشرائح العليا من العمال الصناعيين الأفضل وضعا، وهي روابط تعبر كل الأعضاء الوسطاء في الجيش الاحتياطي. وهذه العلاقة الداخلية تظهر بالأرقام عبر الزيادة المفاجئة التي تطرأ على الجيش الاحتياطي في كل مرة تتدهور فيها الظروف، وفي النقصان الذي يطرأ على هذا الجيش حين تتحسن الظروف، وفي مثل هذه الحالة، يتم التعبير عن هذا الأمر بالنقص النسبي في عدد أولئك الذين يلجأون إلى المعونات الرسمية بنسبة تزايد حدة الصراع الطبقي، وتزايد وعي البروليتاريا. إن كل عامل حوّله عمله إلى إنسان عاجز أو جعله لسوء الحظ يصل إلى الستين من عمره أمامه احتمال بنسبة 50% في الغوص في الشريحة الدنيا من جيش الاحتياط، من جيش البؤس البروليتاري. ووجود الشرائح الأكثر تدنيا في البروليتاريا أمر تؤثر فيه نفس قوانين الإنتاج الرأسمالي التي تزيد من حجمه أو تقلص من هذا الحجم، والبروليتاريا لا تشكل كلا عضويا، ولا طبقة اجتماعية تسمح لها درجات البؤس والقمع بادراك قانون الأجور الرأسمالي في مجموعه، إلا إذا ضم إليها العمال الزراعيون وجيش العاطلين بكل شرائحه ابتداء بالشريحة الأعلى وحتى الشرائح الأكثر انخفاضا. أما الاكتفاء برؤية تحركات الأجر المطلق، فمعناه عدم إدراك أكثر من نصف قانون الأجور. فقانون الانخفاض التلقائي للأجر النسبي مع تقدم إنتاجية العمل هو الذي يكمل قانون الأجور الرأسمالي ويعطيه كل محموله الحقيقي.
منذ القرن الثامن عشر لاحظ مؤسسو الاقتصاد السياسي الفرنسيون والإنكليز، أن أجور العمال تنحو عموما للتقلص حتى الحد الأدنى الحيوي. وكانوا يفسرون هذه الأولوية بطريقة طريفة أي انطلاقا من التغيرات التي تحدث في عرض قوة العمل، وكأن أولئك العمال يقولون أنه حين ينال العمال أجورا عالية، كضرورة حيوية مطلقة، غالبا ما يعمدون إلى الزواج وينجبون أطفالا كثيرين. حينها تمتلئ سوق العمل بحيث يتجاوز عدد طالبي العمل العدد الذي يطلبه الرأسمالي عند ذاك يعمد الرأسمالي إلى تخفيض الأجور، مستخدما التنافس بين العمال. فإذا لم تكف الأجور للعيش يموت العمال موتا جماعيا، وتتضاءل صفوفهم، حتى لا يبق منهم سوى العدد الذي يطلبه الرأسمال، وبهذا تعود الأجور للارتفاع من جديد. وانطلاقا من هذا التأرجح البندولي بين الإفراط في الإنجاب والإفراط في الوفيات لدى الطبقة العاملة، تعود الأجور على الدوام للوقوف عند الحد الأدنى الحيوي. ولقد عمد لاسال إلى تبني هذه النظرية التي كانت رائجة حتى ستينات القرن التاسع عشر وأطلق عليها اسم «قانون الأجور»: loi D’AIRAINE (وهو قانون يقضي بألا يتدنى راتب العامل عن مستوى معين)...
إن نقاط ضعف هذه النظرية واضحة للغاية وتزداد وضوحا مع نمو الإنتاج الرأسمالي. فمسيرة الأعمال المتذبذبة والتنافس لا يسمحان للصناعة الكبيرة بأن تنتظر لكي تخفض الأجور، أن يتزوج العمال بسبب الوفرة وبالتالي أن يضعوا أطفالا كثيرين ثم يكبر هؤلاء الأطفال ويتقدمون لسوق العمل لإحداث النتيجة المطلوبة. إن حركة الأجور، بوصفها نبض الصناعة ليس لها إيقاع بندول الساعة أي بندولا يدوم كل تأرجح في تأرجحاته جيلا بكامله أي 25 عاما، فالأجور تعيش تذبذبا لا يهدأ بحيث لا تعود الطبقة العاملة قادرة على تكييف ذريتها مع مستوى الأجور كما أن الصناعة لا تكون قادرة على انتظار ذرية العمال لكي تستجيب لمطلبها. فمقاييس سوق العمل بالصناعة لا تحددها ذرية العمال الطبيعية، بل يحددها التدفق المستمر للشرائح البروليتارية الآتية من الريف ومن الأعمال الحرفية ومن الصناعات الصغيرة وكذلك وجود نساء وأطفال العمال أنفسهم. إن إغراق سوق العمل على شكل جيش احتياطي، يعتبر ظاهرة ثانية وضرورة حيوية للصناعة الحديثة. فليس تغير العرض في قوة العمل ولا حركة الطبقة العاملة العنصر المحدد في مستوى الأجور، بل العنصر المحدد هو التغير الحادث في طلب الرأسمال، في حركة الرأسمال. إن قوة العمل (انطلاقا من كونها سلعة فائضة على الدوام) موجودة على شكل احتياطي، وحجم أجرها يزيد أو ينقص تبعا لما يشاء الرأسمال، في فترات الظروف المتحسنة، أن يمتص منها أو بقدر ما يشاء أن يبصقها جماعيا، في فترات الأزمات.
إن أوالية الأجور ليست هي تلك الأوالية التي يفترضها الاقتصاديون البرجوازيون ولاسال. فالنتيجة، والوضع العلمي الذي ينتج عن هذا بالنسبة إلى الأجور، يكونان أكثر سوء مما هما في فرضيتنا هذه. قانون الأجور الرأسمالي ليس قانون الأجور الذي يتحدث عنه لاسال، بل هو أكثر قسوة وأقل رحمة، لأنه قانون «مطاط» يسعى دائما لتقليص أجور العمال المستخدمين حتى الحد الأدنى الحيوي في الوقت الذي يبقى فيه شريحة عريضة من العاطلين بين الكينونة والعدم على طرف حبلٍ مطاط.
أما التفكير بقانون الأجور ذي الطابع الثوري فإنه لم يكن ممكنا إلا مع بدايات الاقتصاد السياسي البرجوازي، ومنذ اللحظة التي جعل فيها لاسال هذا القانون محور حملاته التحريضية في ألمانيا، أخذ الاقتصاديون من عملاء البرجوازية في التسارع لإنكار قانونه والتنديد به بوصفه قانونا خاطئا ومغرضا، وشنت جماعة من عملاء أصحاب الأعمال مثل فوشر وشولدزي-دبليتش، وماكس فيرس حملة صليبية ضد لاسال وضد قانونه شاتمين حتى أسلافهم من أمثال آدام سميث وريكاردو وغيرهما من مؤسسي الاقتصاد السياسي البرجوازي. ومنذ شرح ماركس في العام 1867 القانون المطاط للأجور في النظام الرأسمالي تحت تأثير جيش الاحتياط الصناعي وبرهن عليه، خرس البرجوازيون الاقتصاديون خرسا تاما. أما العلم الأستاذي الرسمي للبرجوازية فلم يعد لديه أي قانون على الإطلاق ففضل تفادي هذا الموضوع الحرج وغاص في ثرثرة مشتتة حول الطابع المثير للشفقة الذي ترتديه البطالة وحول فائدة النقابات المعتدلة والمتواضعة.
والاستعراض نفسه يبرز أمامنا فيما يتعلق بالسؤال الثاني الهام من أسئلة الاقتصاد السياسي: كيف يتشكل ومن أين يأتي الربح الذي يحققه الرأسمال؟ وكما حالهم بالنسبة إلى حصة العامل من ثروة المجتمع عمد مؤسسو الاقتصاد السياسي في القرن الثامن عشر إلى توفير أول جواب علمي حول حصة الرأسمال. وكان ريكاردو العالم الذي أعطى الشكل الأكثر وضوحا لهذه النظرية حين شرح بمنطقية وتبصر كيف أن الربح الرأسمالي هو العمل غير المدفوع الذي يقوم به العامل.
-6-
لقد بدأنا دراستنا حول قانون الأجور بالحديث عن شراء وبيع سلعة «قوة العمل». ومن أجل هذا ينبغي أن يكون ثمة بالفعل بروليتاري أجير لا يملك وسائل إنتاج ورأسمالي يملك من تلك الوسائل ما يكفيه لتأسيس مشروع حديث. فمن أين أتى هذان قبل ظهورهما في سوق العمل؟ في العرض الذي قدمناه أعلاه لن نر أمامنا إلا منتجي السلع، أي الأشخاص الذين يمتلكون وسائل الإنتاج الخاصة بهم وينتجون بأنفسهم سلعهم ويتبادلونها. فكيف لتبادل السلع ذات القيمة المتساوية أن يخلق من جهة رأسمالا ومن الجهة الأخرى حرمانا تاما؟ إن شراء سلعة «قوة العمل»، حتى وبقيمته التامة، يؤدي عبر استخدام هذه السلعة إلى تكون العمل غير المدفوع أو فائض القيمة، أي رأس المال. والحقيقة أن تشكل رأس المال والتفاوت ينجلي إن نحن تفحصنا العمل المأجور وآثاره. ومن أجل هذا ينبغي أن يكون الرأسمال والبروليتاريون موجودين فعلا! عندئذ يكون السؤال هو التالي: من أين يأتي أول البروليتاريين وأول الرأسماليين؟ وكيف حدثت القفزة الأولى من الإنتاج السلعي البسيط إلى الإنتاج الرأسمالي؟ وبكلمات أخرى: كيف تم الانتقال من حرفية القرون الوسطى إلى الرأسمالية الحديثة؟
إن تاريخ تفكك الإقطاعية يعلمنا حول تكون أول بروليتاري حديث. فلكي يمكن للعامل أن يظهر في السوق كعامل أجير، كان ينبغي عليه قبل أي شيء آخر أن يحصل على حريته الشخصية. إذن فأول الشروط كان إلغاء القنانة والمنغلقات الحرفية. وكان ينبغي كذلك على العامل أن يخسر كل أداة من أدوات الإنتاج. ولقد حدث هذا الأمر عند بدايات العصور الحديثة، حين شكلت النبالة مالكة الأراضي الملكيات الحديثة. لقد طُرد الفلاحون بالألوف من أراضيهم التي كانوا يمتلكونها منذ قرون وقرون، والأراضي المشاعية تحولت إلى أراض يملكها السادة. والنبالة الإنكليزية أحدثت هذا التحول حين صورت لها ازدهار التجارة في العصور الوسطى وانطلاقة صناعة الصوف في مناطق الفلاندر، رعاية الماشية (الخزاف) بوصفها صفقة بالغة الأهمية بالنسبة إلى صناعة الصوف. وهكذا في سبيل تحويل الأراضي الزراعية إلى مراع للخراف طُرد الفلاحون من أراضيهم ومن مزارعهم. ولقد استمر هذا الأمر في إنكلترا منذ القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر. ففي السنوات 1814-1820، وفي أراضي الكونتيسة ساذرلاند مثلا تم طرد 15 ألف نسمة أحرقت قراهم وحولت حقولهم إلى مراع عاش فيها بدلا منهم 131 ألف خروف. ويعطينا وولف في كتابه المعنون «المليارات السيليزية» فكرة عن كيفية تحويل المزارعين إلى «بروليتاريين أحرار»، في ألمانيا وخاصة على يد النبالة البروسية. يومها حدث للعمال الأحرار حرية الهواء، والذين لتا يمتلكون أية أدوات، حدث لهم أنهم لم يعودوا يمتلكون سوى حرية الموت جوعا أو بيع أنفسهم مقابل أجر يقيهم الجوع فقط، هذا لأنهم كانوا أحرارا [78].
--------------------------------------------------------------------------------
اتجاهات الاقتصاد الرأسمالي
لقد رأينا كيف ولد الاقتصاد السلعي بعد أن تفككت كل أشكال المجتمع التي كان فيها الإنتاج منظما ومخططا –المجتمع المشاعي البدائي، الاقتصاد العبودي واقتصاد القنانة في العصور الوسطى- وكان تفككه على مراحل. ثم رأينا كيف ولد الاقتصاد الرأسمالي المعاصر بشكل تلقائي انطلاقا من الاقتصاد السلعي البسيط، أي الاقتصاد الحرفي المديني عند نهاية القرون الوسطى، وذلك دون أن يرغب الإنسان في ولادته أو يعيها. في البداية طرحنا سؤالا يقول: كيف كان الاقتصاد الرأسمالي ممكنا؟ وذلكم هو السؤال الأساسي المطروح حول الاقتصاد السياسي بوصفه علما. والحال أن العلم يوفر لنا الكثير من الإجابات. فهو يرينا كيف كان الاقتصاد الرأسمالي للوهلة الأولى أمرا مستحيلا، لغزا غير قابل لأي حل، بالنظر إلى غياب كل تخطيط، وكل تنظيم واع، ومع هذا ها هو الاقتصاد السياسي منتظم ككل وجود:
عبر تبادل السلع والاقتصاد النقدي الذي يربط كل منتجي السلع والمناطق الأكثر عزلة على الأرض ببعضها البعض اقتصاديا، ويفرض تقسيما عالميا للعمل.
عبر المنافسة الحرة التي تؤمن التقدم التقني وفي الوقت نفسه تعمل بشكل ثابت على تحويل صغار المنتجين إلى بروليتاريين يحملون إلى رأس المال قوة العمل التي يوسع هذا الأخير شراؤها.
عبر قانون الأجور الرأسمالي الذي يسهر من جهة على ألا ترتفع الأجور إلى مستوى يجعل البروليتاريين يتجاوزون وضعهم كبروليتاريين ويفلتون من العمل تحت أمر الرأسمال، ويسمح من جهة أخرى بتراكم متزايد للعمل غير المدفوع محولا إياه إلى رأسمال، وبتراكمٍ وازدهارٍ متحسنين على الدوام لأدوات الإنتاج.
عبر جيش الاحتياط الصناعي الذي يسمح للإنتاج الرأسمالي بالتوسع تبعا لمشيئته وبالتكيف مع احتياجات المجتمع.
وعبر تغيرات الأسعار والأزمات التي تُحدث، إما بشكل يومي وإما بشكل دوري، توازناً بين الإنتاج الأعمى والفوضوي وبين احتياجات المجتمع.
وهكذا، عبر فعل ميكانيكي قامت به القوانين الاقتصادية المذكورة أعلاه، والتي تشكلت من تلقائها دون أي تدخل واع قام به المجتمع، هكذا أُمكن للاقتصاد الرأسمالي أن يوجد. فعلى الرغم من غياب كل تماسك اقتصادي منظم بين المنتجين الأفراد، وعلى الرغم من غياب كل تخطيط لنشاط البشر الاقتصادي، تمكن الاقتصاد الاجتماعي من القيام ومن ربط نفسه بعجلة الاستهلاك، بشكل جعل من الممكن سد احتياجات المجتمع وقيام تطور اقتصادي، إضافة إلى تطور إنتاجية العمل البشري الذي هو أساس كل تقدم للحضارة.
إن في هذا كله الشروط الأساسية لوجود كل مجتمع بشري. فطالما أن ثمة شكلا تاريخيا للاقتصاد قادرا على الاستجابة لشروطه (أي لشروط المجتمع) بامكان هذا الشكل أن يوجد لأنه يكون ضرورة تاريخية.
ليس للعلاقات الاجتماعية أشكالا صارمة وثابتة. ففي مجرى الزمن تمر تلك العلاقات بالعديد من المتغيرات، وتخضع لانقلاب مستمر هو الذي يشق طريق التقدم الحضاري والتطور. إن الألوف الطويلة من السنين التي هيمن فيها الاقتصاد المشاعي البدائي والتي قادت المجتمع البشري، من بدايات وجود كانت لا تزال نصف حيوانية حتى مستوى عال من التطور ومن تشكل اللغة والدين إلى قيام اقتصاد الرعي والزراعة وإلى حياة العمران وإلى تشكل القرى، تلاها قليلا فقليلا اقتصاد الرعي البدائية وتشكل العبودية القديمة، التي أدت بدورها إلى حدوث تطورات جديدة وكبيرة في الحياة الاجتماعية قادت بدورها إلى تدهور العالم القديم. من المجتمع المشاعي لجرمان أوربا الوسطى، برز –على أطلال العالم القديم- شكل اقتصادي جديد هو القنانة التي ارتكزت إليها إقطاعية القرون الوسطى.
بعد ذلك تابع التطور مسيرته الدائبة: ففي رحم المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى، تشكلت في المدن بذور شكل اقتصادي واجتماعي جديد: المنغلقات الحرفية، الإنتاج السلعي والتجارة المنتظمة كلها توطدت لينتهي بها الأمر إلى تفكيك المجتمع الإقطاعي. وهذا المجتمع تدهور ليخلي المكان أمام الاقتصاد الرأسمالي الذي تطور انطلاقا من الاقتصاد السلعي الحرفي، بفضل التجارة العالمية، وبفضل اكتشاف أمريكا واكتشاف طرق الهند البحرية.
والإنتاج الرأسمالي نفسه ليس خالدا وثابتا إن نحن نظرنا غليه ضمن إطار المتطور الهائل للتقدم التاريخي، إذ سيلوح لنا عند ذاك كمجرد مرحلة انتقالية بسيطة، ومجرد درجة في سلم التطور البشري العظيم، مثله في هذا مثل كل أشكال المجتمعات التي سبقته. فهذا الإنتاج إذا نظرنا إليه عن كثب سنجد أن تطور الرأسمالية يقوده حتما نحو دماره أي إلى ما وراء الرأسمالية. حتى الآن سعينا لمعرفة ما يجعل الرأسمالية ممكنة، والآن بات علينا أن نعرف ما الذي يجعلها مستحيلة وحسبنا في سبيل هذا أن نتبع القوانين الداخلية للهيمنة الرأسمالية ضمن إطار نتائجها اللاحقة. فهذه القوانين هي التي، إذ تصل إلى مستوى تطور معين، تستدير ضد الشروط الأساسية التي لا يمكن للمجتمع البشري أن يعيش بدونها. إن ما يميز نمط الإنتاج الرأسمالي عن أنماط الإنتاج السابقة عليه، هو اتجاهه الداخلي للتوسع فوق كوكب الأرض كله طاردا كل شكل قديم من أشكال المجتمع. ففي زمن المشاعية البدائية كان العالم الذي تطاله البحوث التاريخية مغطى كذلك باقتصاديات مشاعية. وبين مختلف الجماعات المشاعية لم يكن ثمة علاقة على الإطلاق أو كانت هناك بعض العلاقات الواهية. فكل جماعة أو قبيلة كانت منغلقة على نفسها. وإذا كنا نعثر الآن على وقائع مدهشة كتشابه الأسماء بين المشاعية البدائية في البيرو في أمريكا اللاتينية (الماركة) والجماعة الجرمانية في العصور الوسطى (المارش) فالأمر أقرب إلى اللغز الذي لا يزال بحاجة إلى حل أو هو وليد الصدفة. وحتى في عصر ازدهار العبودية القديمة، بوسعنا أن نجد تشابهات كثيرة أو قليلة في تنظيم مختلف الاقتصاديات العبودبة والدول العبودية القديمة لكننا لا نجد أبدا شراكة في الحياة الاقتصادية. وكذلك نجد أن تاريخ المنغلقات الحرفية قد تكرر إلى حدٍ ما في معظم مدن إيطاليا وألمانيا وهولندا وإنكلترا وغيرها في العصور الوسطى. ومع هذا كان التاريخ في أغلب الأحيان تاريخا لكل مدينة على حدة. أما الاقتصاد الرأسمالي فإنه يشمل كل البلدان معطيا إياها الشكل الاقتصادي نفسه، ورابطا إياها جميعا في اقتصاد رأسمالي عالمي كبير واحد.
في داخل كل بلد صناعي أوروبي نجد أن الإنتاج الرأسمالي يلغي الإنتاج الصغير الفلاحي والحرفي دون هوادة. وهو في الوقت نفسه يدمج في الاقتصاد العالمي كل البلدان المتخلفة في أوربا وكل بلدان أمريكا وإفريقيا وآسيا واستراليا. ويتم هذا بطريقتين: طريقة التجارة العالمية، وطريقة الغزوات الاستعمارية، والطريقتان بدأتا معا منذ اكتشاف أمريكا عند نهاية القرن الخامس عشر، ثم توسعنا خلال القرون اللاحقة، ولقد كانت ذروة ازدهارها في القرن التاسع عشر ولا تزالان على انتشار حتى الآن. والطريقتان –التجارة العالمية والغزوات الاستعمارية- تعملان يداً بيد. وهما تضعان البلدان الرأسمالية الصناعية الأوربية على اتصالٍ مع كل أشكال المجتمع في أجزاء العالم الأخرى. ومع أشكال الحضارة والاقتصاد الأكثر قدماً، الاقتصاد العبودي الريفي. الاقتصاد الإقطاعي ولاسيما الاقتصاد المشاعي البدائي. إن التجارة التي تُدمج فيها تلك الاقتصاديات سرعان ما تعمل على تفكيكها وتدميرها. فتأسيس الشركات التجارية الاستعمارية في الأراضي المحتلة، يحول الأرض، التي هي قاعدة الإنتاج الأكثر أهمية، كما يحول قطعان الماشية حين توجد، إلى أيد الدول الأوربية أو إلى أيدي الشركات التجارية، وهذا ما يؤدي في كل مكان إلى تحطيم العلاقات الاجتماعية الطبيعية ونمط الإنتاج المحلي بحيث يتم القضاء على شعوب بأسرها أو يحول جزء منها إلى بروليتاريا توضع، بشكل أو بآخر في تصرف الرأسمال الصناعي والتجاري تارة كمجموعة من العبيد وتارة كعمال مأجورين. إن تاريخ عقود الحروب الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر كله وتاريخ الانتفاضات ضد فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا في أفريقيا، وضد فرنسا وإنكلترا وهولندا والولايات المتحدة في آسيا. وضد اسبانيا وفرنسا في إفريقيا هو تاريخ المقاومة الطويلة والعنيدة التي تُبديها المجتمعات المحلية القديمة في وجه زوالها وفي وجه تحولها إلى بروليتاريا على يد الرأسمال الحديث. لكنه صراعٌ كان الرأسمال يخرج منه مظفراعلىالدوام. ويعني هذا توسعا عظيما لسيطرة الرأسمال وتشكلا للسوق والاقتصاد العالميين يكون فيه مجموع بلدان الأرض الآهلة بالنسبة إلى بعضهم البعض منتجين للبضائع وشارين لها، ويعملون يداً بيد، وشركاء في اقتصاد واحد يشمل الأرض كله.
السمة الثانية هي سمة الإفقار المتزايد الذي يطال شرائحا أكثر وأكثر ضخامة من شرائح البشرية ويؤدي إلى قلق متزايد حول وجودها نفسه. فمع تراجع العلاقات المشاعية القديمة حيث كان ثمة فلاحون وإقطاعيون لهم قوى إنتاجية محدودة ورفاه محدد، وحيث كانت شروط الوجود ثابتة ومضمونة للجميع، وأمام العلاقات الاستعمارية الرأسمالية، أمام التبلتر والاستعباد المأجور، لا يعود أمام كل شعوب أمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا سوى العيش وسط دوامة البؤس العنيف والعمل الشاق وغير المعتاد والقلق الشامل حول إمكانيات الوجود نفسها. وبعد أن تحولت البرازيل، من بلد غني وخصب إلى صحراء هائلة الحجم مزروعة بالبن، بسبب احتياجات الرأسمالية الأوربية وأمريكا الشمالية، وبعد أن حول سكان البلاد الأصليين إلى عبيد مأجورين متبلترين يعملون في مزارع البن، حدث لهؤلاء العبيد المأجورين أن رُموا فجأة وسط فترات بطالة وجوع طويلة، بسبب ظاهرة «أزمة البن»، التي هي ظاهرة رأسمالية صرف. والهند الغنية والفسيحة خضعت بدورها بعد مقاومة يائسة استدامت بضعة عقود خضعت لهيمنة الرأسمال بفضل السياسة الاستعمارية الإنكليزية، ومنذ ذلك الحين صارت المجاعة ومرض التيفوس، اللذين يهلكان ملايين البشر بضربة واحدة، صارا ضيفين مزمنين على إقليم الغانج، وفي داخل إفريقيا تمكنت السياسة الاستعمارية الإنكليزية والألمانية خلال عشرين عاما من تحويل شعوب بأسرها إلى عبيد مأجورين هذا حين لم تمتها جوعا وتشتت عظامها في طول الأقاليم وعرضها. أما الانتفاضات اليائسة والأمراض المعدية الناتجة عن الجوع في الإمبراطورية الصينية الفسيحة فلم تكن سوى نتيجة دخول الرأسمال الأوربي الذي كان قد حطم الاقتصاد الفلاحي والحرفي القديم. كذلك نجد أن دخول الرأسمالية الأوربية إلى الولايات المتحدة صحبته منذ البداية عملية قضاءٍ على الهنود الأمريكيين وسرقة المهاجرين الإنكليز لأراضيهم، تلاها بعد ذلك دخول إنتاج رأسمالي في القرن التاسع عشر استفادت منه الصناعة الإنكليزية ومن ثم حُول أربعة ملايين زنجي أفريقي باعهم تجار العبيد الأوربيون في أمريكا، حُولوا إلى عبيد ليعملوا في خدمة الرأسمال في مزارع القطن والسكر والتبغ.
وهكذا، قارة بعد قارة، وفي كل قارة بلداً بعد بلد، تحولت شعوب بأسرها لتخضع لهيمنة الرأسمال [79]. وتحولت ملايين عديدة من الناس لتصبح بروليتاريا وعبيدا وتعيش عيشا غير مضمون، أي باختصار طالها الإفقار. إن توطد الاقتصاد الرأسمالي العالمي يؤدي إلى ازدهار بؤس متزايد على الدوام وإلى أعباء عمل غير قابلة للاحتمال وإلى قلق متزايد حول الوجود نفسه فوق سطح الأرض، يقابله في الجهة الأخرى تمركز لرأس المال. إن الاقتصاد الرأسمالي العالمي يفرض على الإنسانية جمعاء أن تقوم على الدوام بعمل شاق وأن تشكو من الحرمان ومن الأمراض التي لا تحصى. وأن تعيش تفككا جسديا ومعنويا، لكي تخدم تراكم رأس المال. ومن خصوصيات نمط الإنتاج الرأسمالي ألا يكون الاستهلاك البشري، سوى وسيلة تخدم هدفا محددا هو التراكم الرأسمالي، بعد أن كان في المجتمعات السابقة هدفا في حد ذاته. وتنامي الرأسمال يظهر وكأنه البداية والنهاية، وكأنه غاية في ذاته وكأنه معنى الإنتاج كله. وأن عبثية مثل هذه العلاقات لا تظهر إلا حين يصبح الإنتاج الرأسمالي عالميا. فهنا على الصعيد العالمي، تصل عبثية الاقتصاد الرأسمالي إلى تعبيرها الراقي على صورة الإنسانية وقد خضعت كليا أمام ربقة قوة اجتماعية عمياء كانت هي التي خلقتها دون وعي منها: وتلك القوة هي رأس المال. إن الهدف الأساسي لكل إنتاج اجتماعي هو إعالة المجتمع عن طريق العمل. أما هنا فإن الاستجابة للاحتياجات تظهر مقلوبة رأسا على عقب وذلك لأن الإنتاج من أجل الربح وليس من أجل الإنسان يصبح قانونا شاملا ولأن الاستهلاك دون الحد الأدنى وعدم ضمان مواد الاستهلاك على الدوام عدم استهلاك قسم كبير من الناس، بين وقت وآخر، تصبح هي القاعدة.
في الوقت نفسه يؤدي تطور الاقتصاد العالمي إلى ظواهر هامة تطال الإنتاج الرأسمالي نفسه. فتوطيد هيمنة الرأسمال الأوربي في بلدان غير أوربية يمر بمرحلتين: أولا إدخال التجارة ودمج السكان المجليين في عملية تبادل السلع، وإلى حد ما تحويل الأشكال الإنتاجية المحلية القديمة إلى إنتاج سلعي، وثانيا انتزاع السكان المحليين من أراضيهم ونهبهم أدوات إنتاجهم بشكل أو بآخر، وأدوات الإنتاج هذه إذ تصبح في أيدي الأوربيين تتحول إلى رأس مال فيما يتحول السكان المحليون إلى بروليتاريين، وثمة مرحلة ثالثة تأتي، كقاعدة عامة، لتلي المرحلتين الأوليين: مرحلة يتم فيها خلق اقتصاد رأسمالي في البلد المستعمر-، إما على يد أوربيين مهاجرين، وإما على يد سكان محليين صاروا أثرياء. في البداية كانت الولايات المتحدة الأمريكية التي امتلأت بالمهاجرين الإنكليز والأوربيين الآخرين بعد القضاء على سكان البلاد الأصلين من الهنود الحمر كانت قد شكلت مناطق زراعية ملحقة بأوربا الرأسمالية، حيث كانت تزود إنكلترا بالمواد الأولية كالقطن والقمح، لتحصل منها على في المقابل على كافة الأصناف المصنعة. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تشكلت في الولايات المتحدة صناعة لم تكتف برفض الواردات الأوربية بل شنت حملة منافسة عنيفة ضد الرأسمال الأوربي في أوربا وفي القارات الأخرى، في الهند وجدت الرأسمالية الإنكليزية نفسها تواجه منافسة خطرة على شكل صناعة نسيج محلية إضافة إلى عدد من الصناعات الأخرى. واتبعت استراليا نفس الطريق في تحولها من بلد استعماري إلى بلد رأسمالي صناعي. وفي اليابان أدى الصدام مع التجارة العالمية، منذ المرحلة الأولى إلى خلق صناعة خاصة، جعلت اليابان في معزل عن عملية التقسيم الكولونيالية. أما في الصين فإن عملية التفكيك ونهب البلاد على يد الرأسمالية الأوربية، تعقدت بسبب الجهود التي بُذلت محليا من أجل خلق رأسمال صيني بمساعدة اليابان، وذلك بهدف الدفاع عن النفس ضد هجمة الإنتاج الرأسمالي الأوربي، مما ضاعف في واقع الأمر من آلام السكان. إن هيمنة وتحكم الرأسمال ينتشران في كل الكوكب الأرضي بفضل خلق سوق دولية، وعلى هذا النحو يتوسع نمط الإنتاج الرأسمالي قليلا فقليلا ليغطي الكرة الأرضية. بيد أن حاجة الإنتاج للتوسع وللأراضي التي يمكنه أن يتوسع فيها، أي إلى الأسواق، حاجة تتوسع بنسبة متزايدة، وإنها لحاجة ضرورية وقانون حيوي من قوانين الإنتاج الرأسمالي ذلك الواقع الذي يقضي بعدم الثبات وبالتوسع دائما أسرع وأسرع، أي بالإسراع دائما في إنتاج كميات هائلة من السلع، وفي مؤسسات تتزايد حجما، وبواسطة أدوات تقنية أكثر وأكثر تطورا.
إن قدرة التوسع هذه التي يتمتع بها الإنتاج الرأسمالي لا تعرف حدودا، وذلك لأن لا حدود للتطور التقني، وبالتالي لا حدود لقوى الإنتاج. غير أن هذه الحاجة إلى التوسع سرعان ما تصطدم بحدود معينة، وهي ربح الرأسمالي. فالإنتاج وازدهاره ليس لهما أي معنى إلا إذا حققا ربحا «معتادا». والربح يرتبط بالسوق وبحال السوق، أي بالعلاقة بين الطلب الذي يُبديه المستهلك، وكمية السلع المنتجة وأسعارها. إن مصلحة الرأسمال التي تتطلب إنتاجا دائم السرعة والنمو، تخلق في كل لحظة حدودا لسوقه، وهذه الحدود تعمل على وضع عقبة في وجه اتجاه الإنتاج للتوسع. وينتج عن هذا كون الأزمات الصناعية والتجارية أزمات لا يمكن تفاديها، وهي أزمات تقيم بشكل دوري توازنا بين اتجاه الرأسمال للإنتاج غير المحدود في ذاته وبين حدود الاستهلاك، سامحة للرأسمال بأن يستديم ويتطور.
وكلما كان عدد البلدان التي تطوّر صناعتها الرأسمالية الخاصة كبيرا، وكلما كانت الحاجة إلى، وإمكانيات، توسع الإنتاج كبيرة من جهة، كلما تضاءلت إمكانيات توسع السوق بالعلاقة مع توسع الإنتاج. فإذا نحن قارنا القفزات التي بها تطورت الصناعة الإنكليزية في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر حين كانت إنكلترا لا تزال تهيمن على السوق العالمية، بحجم نمو تلك الصناعة خلا العقدين الآخرين، أي حين بدأت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية تدفعان بإنكلترا إلى التراجع في السوق العالمية، سيتبين لنا أن النمو هو أبطأ الآن منه من قبل. أي أن مصير الصناعة الإنكليزية ارتبط بمصير الصناعة الألمانية والصناعة الأمريكية وأخيرا صناعة العالم كله. فالإنتاج الرأسمالي، في كل خطوة من خطوات تطوره، يدنو دون هوادة من العصر الذي لن يمكنه فيه أن يتطور إلا بمزيد من البطء والصعوبة. إن أمام التطور الرأسمالي في ذاته طريقا طويلا، لأن الإنتاج الرأسمالي بوصفه إنتاجا رأسماليا لا يشكل سوى قطاعا ضيقا من قطاعات الإنتاج العالمي. وحتى في أعرق البلدان الصناعية الأوربية لا يزال ثمة حتى الآن، إلى جانب المؤسسات الصناعية الكبرى، كثير من المؤسسات الحرفية الصغيرة المتخلفة كما أن الجزء الأكبر من الإنتاج الزراعي والفلاحي ليس في أوربا بلدانٌ بأسرها بالكاد تطورت فيها الصناعة الكبيرة. وحيث لا يزال للإنتاج المحلي طابعٌ فلاحي وحرفي، وفي القارات الأخرى، باستثناء أمريكا الشمالية، لا تشكل المؤسسات الرأسمالية، سوى جزر صغيرة موزعة بينما نجد مناطق بأسرها لم تتحول بعد إلى الإنتاج السلعي البسيط. إن الحياة الاقتصادية لهذه الشرائح الاجتماعية، ولهذه البلدان الأوربية وغير الأوربية التي لا تنتج تبعا للنمط الرأسمالي، خاضعة للهيمنة الرأسمالية على أية حال. صحيح أن بوسع الفلاح الأوربي أن يمارس أنواع الأعمال الأكثر بدائية، لكنه مع هذا مرتبط بالاقتصاد الرأسمالي وبالسوق العالمية اللذين وضعته التجارة والسياسة المالية للدول الرأسمالية على احتكاك معها. كذلك نجد أن البلدان غير الأوربية الأكثر بدائية تخضع للرأسمالية الأوربية أو الأمريكية الشمالية عن طريق التجارة العالمية والسياسية الكولونيالية. وأن بامكان نمط الإنتاج الرأسمالي أن تكون له قوة انتشار هائلة لو كان بوسعه أن يطرد أشكال الإنتاج المتخلفة من كل مكان. والتطور يسير بهذا الاتجاه على كل حال. ومع هذا فإن هذا التطور يأسر الرأسمالية في تناقضها الأساسي، فكلما أتى الإنتاج الرأسمالي ليحل مكان أنماط الإنتاج الأكثر تخلفا، كلما صارت أكثر ضيقا حدود السوق التي يخلقها السعي وراء الربح، بالنسبة إلى حاجة المؤسسات الرأسمالية القائمة للتوسع. ولسوف يكون الأمر في غاية الوضوح إن نحن تخيلنا للحظة أن تطور الرأسمالية هو من التقدم بحيث أن كل ما على الأرض يُنتج تبعا للأسلوب الرأسمالي، أي فقط عن طريق مقاولين رأسماليين أفراد، في مؤسسات كبيرة وبواسطة عمال مأجورين حديثين. أمام هذه الصورة ستبدو استحالة الرأسمالية ظاهرة للعيان.
--------------------------------------------------------------------------------
ملحق 1: روزا لوكسمبورغ مدرِّسة [80]
لم تكن روزا لوكسمبورغ كاتبة وخطيبة ذات نشاط مكثف ومستوى رفيع لا يقارن وحسب، بل كانت أيضا أستاذة حقيقية، ومربية تعمل مباشرة لتخدم الفكر والعمل الاشتراكيين.
درّست روزا في مدرسة الحزب القديمة، في ذلك المعهد الذي أسسه الحزب الاشتراكي-الديموقراطي القديم بناءا على إلحاح ليبكنخت العجوز بهدف تكوين مناضلين جدد مسلحين بشكل جيد يعملون من أجل الحركة العمالية.
كانت روزا لوكسمبورغ تُدرِّس الاقتصاد السياسي هناك (ولقد جرت محاولات لوضع كلمة مُدرِّسة بين مزدوجتين، بالنظر إلى أن ما كانت تتحدث عنه روزا كان مختلفا تماما، بل ومتعارضا مع ما كان متوقعا من التعليم آنذاك).
وشيئا فشيئا حملت روزا تلاميذها ليتجابهوا بأنفسهم مع الأفكار الرئيسية للاقتصاد السياسي البرجوازي، أخذت بيدهم نحو المفاهيم الأساسية للماركسية، بعد ذلك قرأت معهم الجزء الأول من «رأس المال»، موضحة حتى تفاصيل التفاصيل كل صعوبة تعرض، وإثر ذلك كانت تناقش معهم حول المشكلات التي يتناولها الجزآن الثاني والثالث.
تُرى كيف كانت ترغمنا على أن نتجابه بأنفسنا مع مشكلات الاقتصاد السياسي وعلى توضيح أفكارنا الخاصة؟ كانت تفعل هذا عن طريق الأسئلة! فعبر السؤال وإعادة السؤال دون هوادة كانت تنتزع من صفنا ما كان مخبوءا فيه من معارف تتعلق بالوقائع التي كان الأمر يقوم في ملاحظتها. عن طريق الأسئلة كانت تنتزع الجواب وتجعلنا نشعر بأنفسنا كم كان ذلك الجواب بسيطا. عبر الأسئلة كانت تكشف المحاججات وتجعلنا نرى ما إذا كانت تلك المحاججات تعمد أو تتهاوى. عبر الأسئلة كانت ترغمنا على الاعتراض بخطتنا وعلى العثور بأنفسنا على حلٍ صائب.
لقد سلكت روزا هذا السبيل منذ اللحظات الأولى أي منذ أن وجدت نفسها في مواجهة مادة بشرية مجهولة، ووجدنا أنفسنا في مواجهة ميدان معرفة جديدة تماما بالنسبة إلينا. منذ أول ساعة بدأت في «تعذيبنا» كما قالت بنفسها مازحة: ما هو الاقتصاد السياسي؟ هل ثمة واقع يتطابق مع هذه النظرية، أجل؟ فيم يقوم؟ ومتى كان، وهذا طبيعي، نفشل في تفسير الأمر كانت تقول إذن، أي حقيقة في الأمر؟ الاقتصاد العالمي؟ هل الاقتصاد السياسي هو نظرية الاقتصاد العالمي؟ هل كان ثمة أبدا اقتصادٌ عالمي؟ ما الذي كان هناك قبله وهكذا دواليك حتى آخر ساعة في الدورة حين كانت تتركنا طالبة منا عدم الإقرار بأي شيء دون امتحانه، وعدم الكف أبدا عن التحقق من كل شيء: «إن ما ينبغي عمله هو اللعب بالطابة مع كل المشكلات!».
إن هذا المنهج في التعليم الذي يقوم في جعل الطلاب يتقدمون بأنفسهم هو المنهج السقراطي، تيمنا بذاك الذي استخدمه قبل أكثر من ألفي عام مع الشبيبة الأثينية. وهو نفس المنهج الذي استخدمه كل المربين الكبار والحقيقيين، هذا المنهج هو بالنسبة إلى العلم كما بالنسبة إلى التلميذ، وبالنسبة إلى المعلم خاصة على أي حال، هو المنهج الأكثر صعوبة، المنهج الذي يتطلب أكبر قدر من تكريس الذات لمهنة التعليم، لكنه في الوقت نفسه المنهج الأكثر إثمارا والذي يعطي أكبر قدر من الرضى، لأن ما يتم تعليمه وتعلمه على هذه الطريقة لا يكون عبارة عن جمل محفوظة في الذاكرة يمحوها الزمان. بحيث أن المرء بحاجة إلى أبشع قدر من الخمول ليصل إلى إنكار المعارف التي يتلقاها على هذا النحو.
آه كم كان سهلا بالنسبة لسقراط وإلى المربين الكبار الآخرين أن يطبقوا منهج التعليم هذا ويحافظوا عليه، إذا قارنا وضعهم بوضع روزا لوكسمبورغ. فتلامذة روزا لوكسمبورغ كانوا مباشرة من المصانع ومن المكاتب ومن المشاغل، كانوا أشخاصا بالغين لم يسبق لهم أن اعتادوا النشاط الذهني، وكانوا قد ترعرعوا في المناخ العام للنفاق والغباء الألمانيين، ذلك المناخ الذي كان يحيط بالبروليتاري ويسجنه ابتداء بجنود الصلب وخرافات الكتب المدرسية حتى عتبة الاشتراكية الديموقراطية والنقابات «الحرة». من أجل إجبار هؤلاء على الفكر المنتظم والنقدي ومن أجل جعلهم يتملكون نظريات كارل ماركس كان على روزا لوكسمبورغ أن تستخدم كل عبقريتها التربوية. وكما في كل مكان آخر كانت تمارس فيه نشاطها، هنا أيضا كانت روزا تنظر إلى الأعلى، كانت تنظر إلى النجوم. وهنا أيضا وصلت إلى هدفها المحدد وكانت على مستوى المهمة التي أناطت بها نفسها. وهكذا إلى مجد روزا لوكسمبورغ وجدارتها كمنظرة وخطيبة وكاتبة علينا أن نصنف مجدها وجدارتها كمربية من الصف الأول.
في الأوقات الأولى للدورة كان كثير من الطلاب، حين يسمعون الأسئلة الذكية والصارمة والقاسية في منطقيتها التي كانت تلقيها روزا لوكسمبورغ كانوا يشعرون بأنفسهم محترقين في وهدة الرأي الطيب الذي كانوا يحملونه عن أنفسهم، هم الذين كان قد سبق لهم أن تحملوا بنجاح مسؤوليات حزبية. فلقد كانت أسئلة روزا قد بدأت تحرك أدمغتهم وتقلبها كما كانت قد بدأت تجعلهم يستشعرون وجود ميادين ذهنية جديدة تماما بالنسبة إليهم ولم يكن الشك بوجودها قد خامرهم قبلا.
على هذا النحو كان يخامرهم خلال الدورة انطباع بأنهم يقفون في مواجهة برج حكمة عاجي دون جسر ودون سلم يوصلهم إليه. غير أنهم سرعان ما كانوا يستشعرون سعادة المشاركة في عملية وعي إنسانيتهم الخاصة، وإحكام الروابط بين إنسان وآخر على الرغم من المسافة التي كانت تفصل بينهم وبين الأستاذة، وبعد ذلك أخذوا يحسون يد روزا لوكسمبورغ الصارمة وهي تقودهم، بإشفاق وتهذيب ولباقة ونكران ذات لتخرج بهم من زمن التعلم إلى آفاق الحياة.
أحيانا كان مدرسة الحزب تعرف ساعات صاخبة فريدة من نوعها. وكان هذا هو الحال حين كان موضوع الدورة يحملنا على الإتيان على ذكر علوم أخرى أو التسلل إليها. وحين كان الطلاب يفتقرون إلى كل الشروط التي تمكنهم من حل المشكلات المطروحة بأنفسهم، كانت روزا تقوم بعملية استعراض شاملة للموضوع لامسة طريقها علم الاجتماع حينا والتاريخ حينا آخر والفيزياء حينا، وفي كل هذا، وبحذق تام كانت تستخلص الجوهري وتبقى تماما ما لا ينبغي الإبقاء عليه ثم تعرضه دون أية بلاغة خطابية، وكان الأمر أعجوبة بالنسبة إلى شخص له مواهبه الخطابية. آنذاك كنا نشعر برجفة مقدسة أمام عبقرية هذه المرأة الشمولية.
لقد انتزعت هذه المربية وهذه القائدة الخالقة لحياة ثقافية جديدة، انتزعت من البروليتاريا واغتيلت. وكان ذلك قبل عام من الآن. وقاتلوها كانوا شبانا لا يعرفون أهمية روزا لوكسمبورغ، لكنهم يتصرفون تبعا لأوامر قوم كانوا يعرفونها تماما.
خلال ألف عام لا يطلع على هذه الأرض، سوى كائن بشري واحد له مثل مواهب لوكسومبورغ وأهميتها.
لقد كان بوسع عصي ورصاصات المرتزقة أن تقتل ما كان قابلا للقتل فيها، أما ما هو خالد فينتصر. لأن كتابات روزا لوكسمبورغ وتعاليمها والمثال المضيء لنشاط لا يكف ولمعركة ثورية شجاعة، أمور لا يمكن أبدا أن تمحّي ولا حتى على يد الرعب الأبيض السيئ.
فلتتعلم الشبيبة من كتابات روزا لوكسمبورغ! ولتتعلم الشبيبة من نضاليتها وعملها!
وفي هذا اليوم الذي نحتفل فيه بمرور عام على اغتيالها تنصت الشبيبة إلى صوتها الجلي والرنان الذي كان غالبا ما يطن في آذاننا، نحن تلاميذها، قائلة: «ينبغي السيطرة على كل شيء بذهن نقدي، وتملك تعاليم كارل ماركس، والعمل بعد إعمال الفكر، ولكن بجرأة وحزم».
فلتقسم الشبيبة إزاء المغتالة، على الوفاء لتعاليمها، وعلى العمل بذهنيتها.
روزي ولفشتاين – فروليك
-----
ملحق 2: مدرسة الحزب [81]
«لم تكن لديّ أدنى فكرة عما تكونه مدرسة الدعاة والمحررين، ما هي، ومن الموحي بها [82]؟». تطرح روزا هذا السؤال بشكل واضح ومحددة على لوفير كاوتسكي مبدية قلقها إزاء ماهية هذا المشروع المتحدث عن مدرسة لإعداد العمال وإزاء الطرف الموحي بها، الحال أن هذا المشروع يستجيب إلى واحدة من مواهبها الأكثر عمقا، ومزاياها التربوية التي نمت منذ المدرسة الثانوية، ثم خلال أول فصل مدرسي من حياتها تطالبه حين شاركت في زوريخ، في «الحلقة الفلسفية-التربوية»، هذه المزايا هي التي ستقودها إلى شغل هذه المهمة التي لن تقبل بها إلا بعد ترددٍ طويل لم ترسلها إثره «إلى التنزه إلى الأبد» [83]. إننا نلاحظ تحفظا كبيرا من لذتها، بل وشيئا من العداء إزاء فكرة احتمال تعاونها في هذا العمل الإعدادي في مدرسة الحزب وذلك قبل 6 أشهر فقط من قبولها المهمة. ونحن بامكاننا أن نلمح هذا الحذر في جواب لا يزال مجهولا حتى الآن، استشاره قرارٌ اتخذته لويز كاوتسكي وأبلغته إلى روما باعثة به إليها قبل أعياد الفصح في العام 1907. كانت لويز راغبة في وضع نفسها في تصرف الحزب كأستاذة للغة الفرنسية.
أما اللهجة التي نحسها في جواب روزا فيمكن إرجاعها إلى ثلاث أسباب. السبب الأول والأكثر أهمية ربما كان قطيعتها الراهنة مع ليو (بوجيشي)، الذي لم تكن بعد قد أعطته الحق. ولقد جعلتها تلك القطيعة سريعة الغيظ مما جعلها تمنع لويز من ذكر اسمها (أي اسم روزا) ف حضور ليو، والسبب الثاني ربما كان في أن لويز، التي ستلعب من الآن وصاعدا داخل حلقة أصدقاء روزا الخلص دورا تتزايد أهميته (إلى جانب خطيب روزا الجديد الشاب كوتستانتين زتكين)، قد أبدت عبر ذلك القرار شيئا من المبالغة في استقلاليتها. بيد أن الأمر كان يقوم في تعليم اللغة التي لم تكن روزا تتقنها بشكل تام رغم علاماتها الجيدة في المدرسة الثانوية. والسبب الثالث والأخير هو أن الكرسي التي طالب من أجلها هاينريش شولتز، خالق مدرسة الإعداد هذه ومديرها منذ افتتاحها في شتاء 1906 طالب بـ«ماركسي صلب، يتمتع بمعرفة تامة بالاقتصاد السياسي.» [84] هذا الكرسي لم يعرض عليها بل على الاشتراكي رودولف هيلفردنغ. وتقول روزا في رسالتها إلى لويز أن ما أغضبها «كوني لم أمنعك من تقديم خدماتك لشولتز من أجل تعليم الفرنسية. فالحقيقة أن تصرفك نابع من حبك للبشر مما سيجعلك تبذلين القليل من القوت الذين تتمتعين به».
قبل بضعة أيام من إعادة فتح المدرسة في شتاء 1907 حدث ما لم يكن متوقعا. فلقد تلقى هيلفردنغ وليس وحده فقط بل كذلك أستاذ آخر هو الهولندي أنطون بانكوك، تحذيرا من البوليس السياسي يقول بأنهما سيطردان من بروسيا، إذا ما «استأنفا نشاطهما في مدرسة الحزب». وهنا مرة أخرى تبدت هوية لوبك، أي الجنسية الألمانية، ثمينة للغاية. فبناء على توصية من كاوتسكي عُرض المنصب الخالي على روزا فقبلته. ولكن ليس دون ملاحظة سقراطية إذ قالت: «إنني لا أحفل بالمدرسة على الإطلاق، فأنا لم أُخلق لأكون معلمة مدرسة» [85]. أما القدر القليل من الاهتمام الذي أبدته فإنه لا يحتاج إلى أية تفسيرات إضافية. أما بصدد مواهبها كمعلمة مدرسة: من سيهتم بالأمر إن نحن فكرنا بمستوى المدارس الألمانية في ذلك الحين! ومع هذا لم تكن مدرسة الحزب آنذاك مدرسة متوسطة القيمة. ومن المؤكد أن روزا أحست بأنها بتعاونها ستكون أكثر روعة مما كانت حتى الآن.
إن لاشيء بامكانه أن يحدد دلالة ذلك النشاط الجديد الذي قامت به روزا بأفضل مما تقول هي نفسها عن الأمر، حين نتحدث عن تجربتها في السنة الدراسية أمام مندوبي مؤتمر نورمبورغ. ففي خطابها دافعت أمام مندوبي 600 ألف من أعضاء الحزب، عن المؤسسة التي كانت تكلف سنويا نحو 60 ألف مارك ذهبيا. لقد كان من الضروري تبرير تلك النفقات التي كان بعض الخطباء، ومن بينهم واحد من أسلافها في تحرير مجلة «فورورتز» إيزنر، قد أبدى انتقادات عديدة إزاء المؤسسة الجديدة وذلك خلال مناقشة التقرير حول نشاطات اللجنة الإدارية. روزا لم تحفل بحجج إيزنر. وموقفها آنذاك كان تكريما لكل مرب. «إذا كنت قد طلبت الكلام الآن فليس للاحتجاج الذي وجه لمدرسة الحزب. بل لأشكو من غياب نقد ملموس جدي. إن مدرسة الحزب مؤسسة جديدة بالغة الأهمية جديرة بأن ينظر إليها بعين الاعتبار، وبأن يوجه إليها نقد جدي». وتلا ذلك نقد ذاتي تقدمت به ومزاحٌ حول نفسها كان مفاجئا وأثار صخبا وضجة: فهي الثورية اعتبرت نفسها محافظة. إنه لمن المشكوك فيه أن يكون كثيرون قد فهموا حقيقة ذلك المزاح العميقة، أي وعي روزا بشيء من التصلب النابع من بيئتها. «إن علي أن أقر أنا نفسي بأنني في البداية لم أستقبل فكرة تأسيس مدرسة الحزب إلا بكثير من الحذر من جهة بسبب محافظة تلك المدرسة الجوانية (ضحك)، ومن جهة أخرى لأنني قلت لنفسي بأن حزبا مثل الحزب الاشتراكي الديموقراطي عليه أن يركز نشاطه الدعائي على التحرك المباسر بين الجماهير».
بعد ذلك أتى اعتراف ستكون له كل أهميته إن نحن فكرنا بالحجج التي أوردتها روزا في البداية وبتحفظاتها، اعتراف تكمن جدارته في كون الأستاذة-وقبل 50 سنة من اندلاع الثورات الطلابية-تلفتت إلى نقد الاختصاصيين أو إلى زملائها بل تعلن انتماءها إلى طلابها. «لقد أدى نشاطي في مدرسة الحزب إلى إزالة القسم الأكبر من شكوكي. ففي المدرسة نفسها وباحتكاكي الدائم مع الطلاب تعلمت كيف اقدر هذه المدرسة الجديدة حق قدرها، وقلت لنفسي باقتناع تام: إن لدي شعورا بأننا خلقنا هنا شيئا جديدا لم ندرك بعد كل نتائجه، شيئا جيدا سيكون مفيدا وثمينا بالنسبة إلى الحزب. مما لاشك فيه أن ثمة انتقادات شديدة لم توجه بعد، ومعجزة أن يكون الأمر غير هذا». وأتت روزا بعد ذلك على ما يشكل الأمر الجوهري في كل مؤسسة مدرسية، مسألة الطلاب أو التلامذة-والحديث هنا بالأحرى عن الطلاب وذلك لأن الذين كانوا يشتركون في الدورات كانوا بين 22 و40 سنة من العمر –وكذلك المشكلة الخالدة التي تواجه كل مرب، مشكلة البرنامج. «إذا رفضت كل اقتراح يتعلق بتغير في اختيار الطلاب، فإنني مع هذا أملك انتقادات شديدة أود أن أوجهها بصدد البرنامج –علما بأننا لاحظنا بوصفنا أساتذة روعة النتائج إلى درجة أنه لا يمكنني ثمني أفضل من هذا. ولا بد هنا من أن أقول بأن المكانة الأولى في البرنامج يجب أن تعطي لتاريخ الاشتراكية الدولية» (...). بعد ذلك تصل روزا إلى مسألة أكثر أهمية. فما الذي سيؤول غليه مصير الطلاب الذين سيكونون قد تابعوا دورات المدرسة؟ كيف سيتم توجيههم ما أن تنتهي دروسهم عبر تفادي مجابهة اللامبالاة الاجتماعية لهم من جهة وإغراء إثقالهم بالمهمات من جهة أخرى؟ «قد يحدث أن ترسل منظمات الحزب الطلاب إلى المدرسة كما يُرسل كبش المحرقة إلى الصحراء، - أي دون أي اهتمام حقيقي بما سيؤول إليه مصيرهم (بالتحديد) ودون أن يعرض عليهم ميدان عمل كاف. وهناك إضافة إلى هذا خطر آخر يكمن في أن تكثر الطلبات على طلاب المدرسة ما أن يعطون مركزا [86]».
هاكم إذن ما حدث في مناقشات مؤتمر نورمبورغ. وينبغي أيضا أن نضيف بأن المشاركين في الدورات كانوا يعفون من كل عبء مالي، وهو أمر سياسي بالنسبة إلى أناس ينتمون إلى الشرائح الشعبية الأكثر حرمانا في المدن الكبيرة. فالدراسة والكتب لم تكن وحدها المجانية، بل كان يُعطى خلال السنة الأولى لـ 31 مشاركا الحق بشراء كتب بمبلغ 2000 مارك بأسعار منخفضة. «كذلك كان الحزب يتحمل نفقات إعالة المشاركين وأسرهم طوال فترة الدورة». هذا العدد لم يكن بالامكان «تجاوزه إلا في بعض الحالات الخاصة الاستثنائية بأن يصبح 31 أو 32». وعلى هذا النحو تم التخلص سلفا من خطر زيادة عدد المشتركين. بل وغالبا ما كانت الأماكن المتوفرة لا تمتلئ كلها فيبقى العدد ما دون الثلاثين تلميذا، وذلك لأن «نقابة التعدين» كانت تهمل إرسال المرشحين للأماكن العشرة الخالية التي خصصت منذ العام 1908 للاتحادات العمالية [87]. وهذا الأمر يمكن تفسيره إن نحن علمنا بأن حصة الأسد من التعليم الإجمالي الذي يصل إلى 777 ساعة، كانت من حصة الاقتصاد السياسي «250 ساعة» كانت تعطى لأستاذٍ ما أن ذكر مرة كنموذج أمام نقابات عمال الطباعة الألمان، نقابة عمال الطباعة الموسكوفية، حتى ننجح في ضرب «الإيمان بأسلوب الخطوات الصغيرة المقدس والموضوع سلفا». إن التشديد على دروس الاقتصاد المجردة ظاهريا، يظهر لنا إلى أي درجة كان الحزب الاشتراكي الألماني متقدما على كل معاصريه. بعد روزا بمسافة يأتي شولتز الذي كان يعلم لمدة 150 ساعة «الإنشاء الشفهي والكتابي والتقنية الصحفية». وبعده يأتي مهرنغ بـ 90 ساعة من التاريخ القديم والحديث، ثم «تاريخ التطور الاقتصادي» 80 ساعة يدرسه كانو الذي حل محل بانكوك. وكان للدروس الحقوقية مكانها أيضا. وكان سُتادت هاغن يحظى بـ 86 ساعة لتدريس «القانون العمالي والتشريع الاجتماعي، ووضع الخدم والقانون».. والدكتور هوغو هاينمن كان يُدرّس «القانون الجنائي والإجراءات الجنائية» خلال 46 ساعة، وخلال نفس الساعات كان الدكتور كورت روزنفلت يُدرّس «القانون المدني». أما الدكتور سيمون كاتزتشتاني فكان يُلقي سلسلة من المحاضرات حول السياسة البلدية خلال 46 ساعة. مقابل هذا لم يكن شتادت هاغن، الذي دخل المدرسة في نفس الوقت مع روزا لم يكن يتمتع بالنسبة إلى الدورة التي بدأت في 1 تشرين الأول 1907 حتى 1 آذار 1908 بسوى 28 ساعة يلقي خلالها محاضرات حول الفيزياء. وفي الدورات اللاحقة أصبح البرنامج مختلفا سواء في المحتوى أم في التوقيت، رغم أن روزا مثلا ظلت تعطي 240 ساعة من التاريخ الاقتصادي، والاقتصاد السياسي.
إنه لمن المهم أن نلاحظ بأن هذا المعهد الذي يذكرنا بكلية أمريكية حديثة كان يُدار بشكل جماعي من قبل مجموع الأستاذة، وكان يشترك في إدارته أيضا، بصفة استشارية، ممثل للطلاب وممثل للجنة الإدارية للحزب، وكان هذا المجلس يجتمع مرة في الشهر كمعدل عام، وكانت اللجنة الإدارية للحزب تستشار في مجموعها حين كان الأمر يتعلق بنتائج الدورة الماضية والإعداد للدورة اللاحقة، وكانت تستشار كذلك بالنسبة إلى القرارات الهامة ولاسيما القرارات المالية. ناهيك عن اجتماعات مع الطلاب كانت تنظم بين الحين والآخر. وهؤلاء الطلاب لم يكونوا يطالبون أحيانا بسوى «تحسينات صغيرة تتعلق بالتنظيم الداخلي أو الخارجي للدروس». ومع هذا يمكننا أن نقرأ الفقرة التالية في واحد من التقارير السنوية لمجلس الطلاب: «يتمنى البعض أن تزداد الساعات المخصصة للمواد النظرية: الاقتصاد السياسي، التاريخ، علم الاجتماع، وكذلك الدروس العملية المخصصة لتقنية الخطابة وللأسلوب وللصحافة، على أن تقلص في المقابل الساعات المخصصة للدروس الحقوقية وللسياسية البلدية».
«وفي مشروع برنامج الدورة الثالثة تم أخذ هذه الأمنيات جزئيا بعين الاعتبار». وفي فقرة أخرى يمكننا أن نقرأ: «لكي تؤخذ بعين الاعتبار مطالب الطلاب المتعددة التي تشكو من استخدام الوقت بشكل بالغ الكثافة، سيكون ثمة خلال الدورة الجديدة إضافة إلى يومين لا دراسة فيهما بعد الظهر، يوم ثالث حرٌ من الدراسة».
بمعنى أن الإصلاحات كانت تُجرى بناءا على طلب من الطلاب، إضافة إلى هذا بالنسبة إلى العمل الذي عليهم القيام به بعد الظهر، أو بالنسبة إلى تمارين الدورة، بوسعهم أن يطلبوا مساعدة أساتذتهم الذين جمعت دروسهم صباحا لهذا الغرض.
إن هذا لا يقول لنا شيئا حول القيمة الفعلية لهذه التجربة الاشتراكية الديموقراطية، ولا عن فضل روزا في هذا المجال. إن أحد لن يُدهش لدى علمه بان التقارير الرسمية للحزب كانت تعبر عن الرضاء الذاتي. لكن المفاجئ هو النظام الذي عبره كانت تقدم الشهادات على الرضى: «الطلاب، مجلس الأساتذة وإدارة الحزب كانوا في هذا العام أيضا، راضين عن نتائج الدورة». كما نقرأ في العام 1911.
أما المربي فإنه لن يُدهش إن سمع حديثا عن مناقشات عن نهاية الفصل/ مخيبة للآمال، وذكريات تقريظية وهي ذكريات شديدة الإبهام تبعا لما إذا كان من يوردها قريبا أو بعيدا عما يشهد عليه.
قبل أن تُرغم الحرب العالمية الحزب على إغلاق «مدرسة الحرب الاشتراكية» (كما دُعيت مدرسة الحزب مرة) طلب من روزا أن تلقي سلسلة من المحاضرات الخاصة أمام أصدقاء غير بروليتاريين، رغبت روزا في النكوص عن هذه المهمة وهي التي اعتادت أن تقرأ مع تلامذتها الآتين «من المصانع والمشاغل والمكاتب»، كما تكتب روزي ولفشتاين، الكتاب الأول من «رأس المال» وتعلق معهم على الكاتبين الآخرين. فضلت النكوص «لأنني»، كما كتبت إلى لويز «لست أتوقع سوى القليل من هذه الجلسات وإني لمنهكة بشكل رهيب. غير أن كورت روزنفلت سارع اليوم أيضا إلى المدرسة وسحقني، أنا المرأة الضعيفة، بحججه مرة أخرى. إن هذه الجلسات يجب أن تبدأ باكرا وذلك لأنه يبدو أن الدكتورة السيدة مارتا روزنبوم، والدكتور رودر وزوجته وقعوا فجأة في غرام رأس المال، وجودك سيكون راحة لي». وبصدد تفصيل تقني، وفرت روزا آنئذ دليلا على أنها تفهم، بكل ما لديها من حساسية بأن عليها ألا تفرض على لويز استماعا ثانيا. «على أي حال سوف أبدأ بأن أقرأ على هؤلاء السيدات والسادة، الدفتر الأول الشهير من دفاتر مجموعتي مدخل للاقتصاد السياسي، الذي سبق لي أن قرأته يوما أمام زوجا من الأصدقاء عند ضفاف بحيرة كانركانتون. ربما لم تكن لديك رغبة في تحمل هذه القراءة مرة ثانية. لذا سيكون من الأفضل لك أن تمتنعي عن حضور الدرس الأول».
إنه لمن قبيل الواقع التاريخي الهام أن نذكر بأن تلك الكلية الاشتراكية كانت تمارس بالفعل، وحتى خلال الدورات المنتظمة، نوعا من التعليم المشترك وأننا نعثر إلى جانب موظفي الحزب والنقابات، على بنّائين وزجّاجين وخشابين وعمال مناجم وعمال نقل وحلاقين، وكذلك على أساتذة، وأن الأستاذ كان امرأة.
ترى ما هو ذلك الدرس الذي كان كارل ولويز كاوتسكي قد تلقياه من روزا قبل غيرهما في سويسرا؟ هل هو الفصل الأول (المحتوي على ست صفحات ونصف الصفحة مطبوعة) والمعنون ما هو الاقتصاد السياسي؟ والذي كان من شأنه أن يشكل مدخلا للكتاب الذي هُجر لاحقا ثم نشره بعد ذلك في موسكو وباللغة الروسية نال هيمر (الذي ناله البطش في وقت لاحق) ونشره ليفي في برلين تحت عنوان «مدخل للاقتصاد السياسي»؟ إن هذا الفصل يحتوي على سجال عظيم جدا ضد أشهر العلماء الألمان وضد التعريفات التي يوردونها للاقتصاد السياسي. هذا الكتاب، الذي من الواضح أنه لم يكتمل أبدا ولم يتمتع بأية وحدة أسلوبية، كان عليه أن يكون كتابا مدرسيا في تاريخ الحضارة للمستوى الجامعي، بعيدا عن المحتوى الثوري، وحافلا بالاسنادات السوسيولوجية (انتربولوجية) وبإحالة إلى الاقتصاد السياسي المؤسس استنادا إلى المفاهيم. والمقولات التي خلقها ماركس وانجلز ثم أضيفت إليها مواد جديدة. لقد جرى التشديد في الكتاب على ولادة وزوال المشاعية الريفية في العهد الإقطاعي ومستتبعاتها الدولية. كانت روزا تخص تلامذتها بساعتين تعليم يوميا «يقطعها ربع ساعة من الراحة» [88]. فإذا كانت تأخذ في الساعة صفحة مطبوعة ثم تلخص في نهاية الساعة كتابة ما كان قد قيل، كان بوسع الموضوع أن يعالج خلال دورة كاملة.
وإلى جانب الدبابيس التي كانت روزا تشك بها «أنوار العلم في عصرها»، وهي دبابيس تشبه تلك التي كانت روزا تبثها بكرم في ثنايا مقالاتها الصحفية، وإلى جانب تلك الدبابيس كانت روزا تورد تورد أمثلة مدهشة تعبر عن وجهة نظرها، مستقاة من تاريخ مختلف البلدان، وكانت مالوفة لمستمعيها.
ترى هل كان التلاميذ يتصورون أن ألمانيا –وبفضل الضغط الذي كانت تمارسه الاشتراكية الديموقراطية طبعا والنقابات –كانت تمثل نموذجا في التشريع الاجتماعي مطروحا أمام البلدان الأخرى؟ أبدا بل على العكس «ففي روسيا توطدت أولى قوانين حماية النساء والقاصرين، بعد القلاقل التي أحدثت في القطاع الصناعي في موسكو في العام 1888، ويوم العمل من 11 ساعة ونصف للرجال هو مكسب تحقق إثر الإضراب العام الأول الذي قام به 60 ألفا من عمال النسيج في بطرسبورغ في العامين 1896 و1897. إن ألمانيا متخلفة عن كل الدول الكبرى الحديثة الأخرى بصدد قانونها العمالي الذي لا يعني إلا بحماية النساء والأطفال». فإذا كانت مثل هذه الحقائق عاجزة عن حث المائتي مناضل ألماني الذين تابعوا دروس روزا خلال الدورات السبع التي علمت فيها، حثهم على كتابة ملاحظات والبحث عن مراجع والتفكير، فإن معنى هذا أن عمل الإعداد كله كان بلا جدوى.
ترجمة:إبراهيم العريس، دار ابن خلدون