الأزمة والصراع الطبقي في روسيا
ليموند ديبلوماتيك |
السبت, 16 كانون ثان 2010 20:44 |
في إحدى أفضل الدراسات عن تأثيرات الأزمة على المناطق الروسية [1]، شدّدت ناتاليا زوباريفيتش على مدى تنوّع الأوضاع. ففي الإجمال، نتلمّس تأثيرات الأزمة بشكلٍ أقلّ في المدن المتعدّدة الوظائف. انخفضت الأجور، لكنّ السكان يكوّرون ظهورهم، ويحدّون من نفقاتهم، ويعيدون تنشيط بعض الممارسات، للبقاء على قيد الحياة (الحدائق العمّالية، البيوت الريفية (داتشا)...)، على أملٍ بأيام أفضل. الوضع ليس ممتازاً في القطاعات التقليدية، مثل قطاعي تصنيع المعادن أو الطاقة، لكنّ العمل بإعادة تنشيطها قد بدأ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى قطاعات التصنيع الميكانيكي (السيارات، آليّات التصنيع.. الخ)، التي غالباً ما اضطرّت للإقفال بشكل مؤقّت، مُعرّضة مجمل العاملين فيها للبطالة المؤقّتة. ولكن الوضع أضحى مأساوياً في بضعة مئات من المدن "ذات الصناعة الأحادية" مثل بيكاليفو، خصوصاً عندما يشكّل مجال النشاط جزءاً من قطاعٍ اقتصادي أصلاً في أوضاع هشّة. من جهة أخرى، أظهرت الدراسة أنّه، في حال خفّت الأزمة الصناعية، قد تُستتبع بأزمة "ميزانيّة". فالمناطق لا تملك احتياطات الحكومة الفيدرالية (أموال النفط، إحتياطات نقدية)؛ في حين أنّها هي المُكلّفة بتأمين قسمٍ كبير من الخدمات الأساسية للسكان: الطبابة والتعليم والخدمات إجتماعية والمدينية. وسط هذه الشروط، وبالرغم من استعادة النشاط الاقتصادي، يتمّ ترقّب بداية العام 2010 بارتياب. -------------------------------------------- في 15 أيار/مايو 2009، توقّفت المحطة الحراريّة عن العمل في بيكاليفو، المدينة صغيرة في منطقة بطرسبورغ والمُرهقة بالديون، ما أدّى إلى حرمان السكان، البالغ عددهم واحداً وعشرين ألف نسمة، من المياه الساخنة. فبعد أشهرٍ من التوتّر، كانت هذه هي الشرارة. إذ وزّعت إحدى النقابات المحلّية، يوم الاثنين التالي، منشورات تدعو فيها إلى قطع الطريق الفيدرالية التي تصل فولوغدا ببطرسبورغ والتي تمرّ بمحاذاة المدينة. ويوم الثلاثاء، قطع ثلاثمائة عامل من مصنع Bazel الذي يملكه الأوليغارشي أوايغ ديريباسكا - سيد الألومنيوم الروسي – الطريق A-114،وهم يغنّون نشيد "الأممية". وسرعان ما التحق بهم نساء وأولاد عمّال المصانع الثلاثة الموجودة في المدينة، معمليْ الاسمنت والمصنع الكيميائي (نيفيلين). وكانت أُقفلت جميعها في بداية العام، كي يجرّد أربعة آلاف من سكان المدينة من وظائفهم [1]. وفي غضون بضع ساعات، عمّت الفوضى: ازدحام سيرٍ على طول 438 كيلومتراً! وقد حاول الحاكم المحلي تهدئة المتظاهرين، مُتحدّثاً عن وجود وظائفٍ في مدنٍ أخرى من المنطقة: ولكن لا فائدة. ومن جهته لم يحاول الحرس الوطني تفريقهم. حيث أكّد البعض بأنّ السبب كان عدم الرغبة في المخاطرة بجرح الأولاد؛ في حين أشار آخرون بأنّهم كانوا يتحدّثون يوم الثلاثاء ذاك عن مجيء رئيس الوزراء فلاديمير بوتين إلى المكان، وأنّه كان من الأفضل تفادي المواجهة. تجسّد أزمة بيكاليفو الوضع داخل ما يسمّيه الروس بـ"المدن ذات الصناعات الأحاديّة" (monogorod بالروسية)؛ ويُشار بهذه الفئة بشكلٍ عام إلى المدن الصغيرة والمتوسّطة الحجم - ما بين عشرين وخمسين ألف نسمة -، لكنّها تشمل أيضاً مدناً كبيرة لتصنيع المعادن، حيث يكون المُستخدِم الأساسي للعمّال هو شركة واحدة موحّدة. هكذا بُنيت بيكاليفو حول تكتّلٍ صناعيٍ واحد، الأسمنت والكيمياء، يملك محطة حرارية خاصّة به. وضمن إطار الخصخصة، تمّ تقسيم هذا التكتّل إلى ثلاثة أقسام. لكن الأزمة المالية وارتفاع أسعار خدمات السكك الحديدية والطاقة، وعجز المدراء الثلاثة عن إعادة تشكيل تكتّلٍ صناعيّ متناسق، قد أودوا بالمصانع الثلاثة إلى الإفلاس. وفي غضون بضعة أسابيع، كانت جميعها تُقفل أبوابها مع بداية العام 2009، مُكدّسةً الديون والرواتب غير المدفوعة. هكذا ارتفعت حدّة التوتر الاجتماعي؛ لكن، وكما يحدث غالباً في روسيا، فإنّ التوقف عن تأمين خدمةٍ أساسية - وهي في هذه الحالة توزيع المياه الساخنة- هو الذي أثار التحرّك المُذهِل للسكان. ففي الانتظار، كان الناس يعتاشون من خلال مساعدة بعضهم البعض وممارسة بعض الأعمال الثانوية، دون أن ننسى مزروعات الحدائق التي تشكّل مورداً أساسياً بالنسبة إلى هذه المدن، حيث يعتني كلّ شخصٍ تقريباً بحديقته، "تحسّباً للأسوأ". هكذا أفرج الحاكم المحلي، يوم الأربعاء، عن أموالٍ خاصّة لدفع قسمٍ من الأجور وديون المحطة. ويوم الخميس، وصل السيد بوتين إلى المكان، يُرافقه، عدا عن قنوات التلفزة، العديد من الوزراء، والحاكم المحلي، ومدير سكك الحديد والمدراء العامّون الثلاثة (!) للشركات الثلاث التي تملك المصانع. وتمّ الانتقال من الأزمة المحلية إلى درسٍ في السياسة الناشطة تمّ إخراجه بطريقةٍ ذكية. عرضٌ مسرحيّ ضخم وفق تقليد صورة "القيصر الجيّد المُحاط بنبلاء سيّئين [2]". إذ أثناء زيارته السريعة لمصنع الإسمنت المُقفر، قال رئيس الوزراء مُتوجّهاً إلى الحاكم: "لن يقنعني أحد بأنّ قادة المنطقة قد بذلوا كلّ ما في وسعهم لمساعدة هؤلاء الناس". وخلال اجتماع جمعَ أطراف الأزمة، تمّ الإعلان عن عددٍ من القرارات: إعادة التفاوض حول الروابط بين المصانع الثلاثة، وتحرير بعض القروض، وتخفيض أسعار التسليم عبر السكة الحديدية. وقد أنهى كلامه قائلاً: "لقد جعلتم من آلاف الأشخاص رهائن لمطامعكم، لانعدام مهنيّتكم أو لجشعكم. فأين هي إذاً المسؤولية الاجتماعية لقطّاع الأعمال التي يتحدّثون عنها باستمرار؟ تعود بوادر هذا الوضع إلى ما قبل الأزمة. ويجب إعادة تشكيل هذا التكتّل الإنتاجي. وسأمنحكم ثلاثة أشهر. وفي حال لم تتوصّلوا إلى اتفاق، سيتمّ ذلك بدونكم (تلميحٌ إلى مشروع تأميم طُرح في مجلس الدوما) [3]". لكنّ مُشاهدي التلفزيون اطّلعوا على حديثٍ آخر جالَ على كافة مواقع الإنترنت. فقد توجّه السيد بوتين، حاملاً نصّ الاتفاقية المُقترحة، إلى السيد ديريباسكا الذي يحاول تبرير المصاعب التقنيّة التي يواجهها مصنعه: "أوليغ فلاديميروفيتش، هل وقّعتَ على هذه الاتفاقية؟ لا أرى توقيعك، تعال إلى هنا ووقّعْ". فبادر الأوليغارشي إلى النهوض ووقّع على الورقة، في حين كان رئيس الوزراء يرمقه بنظرات غاضبة... يمكننا تعلّم دروسٍ كثيرة من هذه الأزمة. فهناك الصورة التي أرادت السلطة منحها عن فعالية عملها. إذ عنونت صحيفة "كومرسانت" Kommersant الموسكوفية: "خلال ساعات، وجد فلاديمير بوتين حلاًّ لمصير بيكاليفو". وهناك صورة من يريد إعادة الأوليغارشيّين إلى الطريق الصحيح، هؤلاء الذين يُشار إليهم بالأصابع بسبب تكدّس ثرواتهم والدور الذي لعبوه في الأزمة المالية الأخيرة؛ دون أن ننسى ما شدّدت عليه وسائل الإعلام الروسية: فغالبيّتهم يهود. حيث نرى في الواقع، في الصور التي التُقطت عن المظاهرات، العديد من الشعارات: من ذلك العاديّ "ديريباسكا بِعْ يختك"، وصولاً إلى يافطة ذات منحى مختلف تماماً: "ديريباسكا جدير بمعسكر الإبادة في بوخينفالد [4]" (المعتقل النازي لليهود)... وقد بادرت صحيفة Novaïa Gazeta أيضاً إلى قراءة مختلفة: فوراء هذا التصويب التلفازي، هناك الحقيقة، أي مليارات الروبلات من المساعدات التي قدّمتها ميزانية الدولة، دون مقابل، إلى الأوليغارشيّين الذين يعانون من ضيقٍ مالي. في ذلك تأكيدٌ على الهيمنة التي لا تزال حاسمة تماماً في روسيا، والتي تمارسها الإدارات العامة على الحياة الاقتصادية: فالوزراء، ورئيسهم في غالب الأحيان، هم من يهتمّون بالتفاصيل حول ما يرتبط في فرنسا حصرياً بالعلاقات بين وداخل الشركات. ولهذا التفرّد عواقب وخيمة: إذ إنّه يدلّ على ذهنيّة التحكّم بالمجتمع من قبل السلطة، وهو أحد العوامل المُسبّبة في تباطؤ وتيرة عمليّات التحديث، وتجميد الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم وانتشار الفساد. كما أنه يُبرز تصاعد الحركات الاجتماعية. فلا شكّ أنه، بالنسبة إلى بيكاليفو، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التركيز الذي لجأ إليه الكرملين. والرسالة مُتعدّدة الجوانب. فعلاوة على انتقاد المدراء "السيّئين" للشركات وللمناطق، في حين تحتفظ الحكومة ببرامجها الاجتماعية، إنّه تحذيرٌ مُوجَّه للعاملين في حقل السياسة ولرجال الشرطة، في مواجهة تظاهرات الاستياء: إذ ليس وارداً السماح بتكرار هذا النوع من التحرّكات. ففي مناطق عدّة من البلاد، كانت ردّة فعل السلطات سريعة في مواجهة تهديدات مُماثلة، مُستخدمةً العنف تارة والوعود تارةً أخرى، لوضع حدٍّ سريعٍ لمخاطر تفجّر الغضب. ويتمّ التعويل على استعادة النشاط الاقتصادي المُرتقب، تفادياً لقطع الطرقات مجدّداً؛ لكنّ أعراض بيكاليفو حيّة في الأذهان، وقد شهدنا على تكرارٍ، ولو أقلّ أهمّية، لنفس السيناريو في أمكنة عديدة أخرى. الأزمة والصراع الطبقي في روسيا- ليموند ديبلوماتيك |