استقرار مصـــر علــي برگان خـامد
استقرار مصـــر علــي برگان خـامد
المعارضون في الخارج .. لماذا يطاردهم الأمن في الداخل
وهم المراهنة علي «أخلاق» أمريگية لحل القضية الفلسطينية
واشنطن من: فريدة النقاش
واشنطن مدينة جميلة، نظيفة جدا، ومنظمة جدا، وغنية جدا، بل هي فاحشة الثراء، ولكنها مدينة بلا قلب علي حد وصف الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي للقاهرة حين رأي نفسه غريبا فيها بعد نزوحه من الريف، واشنطن بلا روح، بوسعك كزائر أن تكتشف هذه الحقيقة تو أن تشهد عشرات المشردين بلا مأوي يحملون خيامهم علي أكتافهم ويتجولون في أفخم شوارع العاصمة وكأنهم شهود علي قسوة النظام الرأسمالي ولا مبالاته ذلك أن مليون أسرة أمريكية من كل الولايات خرجت مطرودة من مساكنها بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة.
إنها مدينة الغواية والجشع كما وصفها صديقي الراحل «الدكتور فوزي هيكل» حين زرت واشنطن أول مرة سنة 1990 بدعوة من اتحاد الطلبة العرب.
وها أنا قد عجزت عن طرد الشعور بالغربة فيها لدي زيارتي الثالثة لها رغم وجود عدد كبير من الأصدقاء والزملاء من الصحفيين العرب والأمريكيين، ورغم كثرة المشاغل وتدفق أخبار زيارة الرئيس «مبارك»، والتنقل بين الفنادق إذ كان الصحفيون قد تجمعوا في فندق واحد غير الفندق الذي أقام فيه الرئيس والوزراء.. وأقامت مصلحة الاستعلامات مركزا إعلاميا نشط فيه عدد من العاملين وقدموا خدماتهم للصحفيين بتفان تحت إشراف السفير «إسماعيل خيرت» رئيس مصلحة الاستعلامات ومعه دينامو المركز السيدة «بسمة محمود» وعرفت فيما بعد أنها ابنة نقيبنا الراحل حافظ محمود وقد جاءت من نيويورك مع فريق عمل من المركز الإعلامي المصري هناك.
تابع الإعلام المصري موضوعات اللقاء الأساسية بين الرئيسين «مبارك» و«أوباما» حول مستقبل الصراع العربي - الفلسطيني، والملف النووي الإيراني، والوضع في السودان ودارفور ودور مصر في تحقيق الاستقرار هناك، والصراع في الصومال وأفغانستان وباكستان وأنفاق غزة.. إلخ.
وقالت صحيفة الفاينانشيال تايمز إن الرئيسين «مبارك» و«أوباما» حين يلتقيان لبحث عملية السلام والقضايا الإقليمية والدولية فإن كليهما يعلم أن هناك مسألة أخري في الخلفية وهي أن الرئيس القادم لمصر سيكون عليه التعامل مع مجموعة من المشاكل المحلية المتراكمة، بينما أكدت دوائر مقربة من الرئيس أنه هو المرشح القادم للرئاسة عام 2011!.
وردا علي مطالبات جماعات حقوقية وصحف ومراكز بحث حول ضرورة وضع ملف الإصلاح الديمقراطي في مصر علي رأس جدول أعمال الزيارة، وهو الملف الذي كان واضحا منذ البداية أنه قد جرت إزاحته للخلف، إذ كان الإلحاح عليه سببا في امتناع الرئيس «مبارك» عن زيارة واشنطن لخمس سنوات متصلة أثناء إدارة بوش.. ردا علي هذه المطالبات دعا الدكتور عبدالمنعم سعيد عضو لجنة السياسات ورئيس مجلس إدارة الأهرام في مقال نشرته صباح لقاء الرئيس مع أوباما جريدة «الواشنطن بوست» المقربة من البيت الأبيض.. إلي ضرورة تركيز الرئيسين علي التهديدات الأمنية الجديدة في المنطقة، خاصة مشكلة الدولة الهشة التي تقع تحت ضغوط أوضاعها الديموغرافية وندرة الموارد والصراع الداخلي، وأن مصر هي الدولة شبه الوحيدة في المنطقة التي تتميز برسوخ مؤسساتها واستقرارها بما سيجعلها القوة الإقليمية القادرة علي تحريك مجريات الأمور في الإقليم.
ولما كان الدكتور «عبدالمنعم سعيد» قد ألقي مجموعة من المحاضرات قبل زيارة الرئيس في عدد من مراكز البحث الأمريكية متحدثا عن الأوضاع في المنطقة فقد بدا أن مقاله يتضمن الرد المصري الرسمي علي المطالبات بإدراج ملف الإصلاح الديمقراطي كأولوية وجاءت الريح بما تشتهي السفن لأن أولوية الإدارة الأمريكية كانت ترتكز علي تعزيز التعاون العسكري بين واشنطن والقاهرة لاسيما في ظل التقارب في تقييم الأوضاع الإقليمية والتهديد الإيراني لتوازن القوي الإقليمي والتطلع لإدماج إسرائيل في محيطها العربي وتجاوز مرحلة العداء بين الطرفين لمواجهة التهديد الإيراني، كما يقول تقرير لمعهد الأمن الأمريكي الذي دعا لسياسة جديدة قائمة علي كل من المصالح المشتركة والإيمان الأمريكي بأهمية الدور المصري في حل النزاعات الإقليمية واستقرار دول المنطقة بداية من العراق، والرغبة الأمريكية من دور مصري وعربي «سني» لموازنة الدور الإيراني الشيعي في العراق وباقي دول المنطقة، مرورا باستقلال لبنان سياسيا وأمنيا ووصلا إلي السودان وأزمة دارفور.
أما الاستقرار الذي يتحدث عنه الدكتور «عبدالمنعم سعيد» باعتباره عنصر القوة الذي تتمتع به مصر ويؤهلها للقيام بدور محوري مقارنة بالدول الهشة فهو بدوره استقرار هش لأنه قائم علي ركود الحياة السياسية وحالة الطوارئ الدائمة خلفه إنه بالأحري استقرار علي بركان خامد مؤقتا بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في البلاد وهو ما تعرفه الإدارة الأمريكية جيدا ولديها من التفصيلات عن الأوضاع ربما أكثر مما لدينا.. ويقول تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني «إن مصر تظل شريكا استراتيجيا في منطقة غير مستقرة وتواجه تحديات اجتماعية واقتصادية وقد جري تصنيف النظام في مصر باعتباره فاسدا إلي حد كبير طبقا لمنظمة الشفافية الدولية وقد أصبح النفوذ الإقليمي المصري علي المحك وفي سبيله للتراجع لاسيما مع توقف النظام المصري عن مواصلة الإصلاح السياسي بعد حصول الإخوان المسلمين علي 88 مقعدا في الانتخابات البرلمانية عام 2005.
ورغم أن الوفد الرسمي المصري لم يبد منزعجا من نشاط المعارضة في الخارج فإن أصداء قوية لهذا النشاط قد برزت في الإعلام الأمريكي رغم قلة عدد الحضور سواء في المؤتمر الصحفي الذي نظمه تحالف 28 فبراير المكون من ثماني منظمات وأبرز الشخصيات فيه الدكتور سعدالدين إبراهيم والدكتور أحمد صبحي منصور، وبالمناسبة لم يكن صحيحا أن المظاهرة التي نظموها أمام البيت الأبيض ساعة لقاء «مبارك» و«أوباما» قد ضمت ألف متظاهر فقد كنت هناك ولم أشاهد سوي بضع عشرات لا يتجاوزون 200 من المتظاهرين بشعاراتهم ومطالبهم.
ومع ذلك فإن تلك الجماعات تتمتع بقدر من النفوذ في أمريكا نظرا لقربها من دوائر صنع القرار لاسيما في الكونجرس.
وقد أنشأت هذه المنظمات تحالفا فيما بينها ضم تحالف المصريين - الأمريكيين لرئيسه صفي الدين حامد ومركز ابن خلدون لرئيسه سعدالدين إبراهيم، ومنظمة حقوق الناس برئاسة عمر عفيفي وهو ضابط المباحث الذي وضع كتابا بعنوان «عشان ما تضربش علي قفاك» وقال إنه تعرض للمصادرة ثم هاجر إلي الولايات المتحدة لينشئ منظمة هناك ويصبح وجها سياسيا معارضا، ومنظمة أصوات من أجل الديمقراطية في مصر برئاسة «دينا جرجس» التي كانت قبل أسابيع قد ردت بقوة علي تصريح الدكتور «مصطفي الفقي» الذي قال فيه - تماما مثلما قال محمد مهدي عاكف - إنه لا يمكن أن يصبح مسيحي رئيسا للجمهورية في مصر، والمركز العالمي للقرآن الكريم برئاسة أحمد صبحي منصور، والجمعية الإسلامية الأمريكية برئاسة أكرم الزند.
وأرسل التحالف خطابا لكل من مبارك وأوباما بمطالبه التي تدعو للعمل علي إلغاء حالة الطوارئ والإفراج عن سجناء الرأي والسجناء السياسيين ووقف المطاردات الأمنية للنشطاء السياسيين والإسراع بإصدار قانون بناء دور العبادة الموحد لبدء مرحلة جديدة من الوحدة الوطنية والمحبة بين عنصري الأمة، وإعلان وعد قاطع باتخاذ خطوات نحو ترسيخ الديمقراطية وإعمال مبدأ الفصل بين السلطات والكف عن التدخل في شئون القضاء، والوعد بتشكيل جمعية تأسيسية ممثلة لكل الاتجاهات لإعداد مشروع دستوري عصري وحديث، وإقرار مبدأ حرية تشكيل الأحزاب والجمعيات الأهلية وحرية تداول المعلومات، وعدم التدخل في الانتخابات.
وهي تقريبا المطالب التي تتوافق مع توجهات الأحزاب والقوي الوطنية والديمقراطية في مصر.
ومما أدهشني حقا هذا الهجوم المنظم علي سعدالدين إبراهيم من بعض الزملاء الصحفيين لأنه يعارض من الخارج ويتجاهلون أنه ملاحق في الداخل وأنه تعرض للسجن لما يزيد علي سنتين بسبب آراء قالها، كذلك هو حال الدكتور «أحمد صبحي منصور» الباحث في علوم القرآن الذي تعرض هو وأسرته للملاحقة لأن لديه مشروعا فكريا لتجديد الخطاب الديني، والقرآنيون -كما يسمي أنصار تياره - لا يعتدون بالسنة النبوية لأن الأحاديث جري جمعها بعد وفاة الرسول بقرنين من الزمان، وبدلا من أن يتيح له الحكم في مصر التي هي دولة دينية - كما يقول - فرصة لنشر أفكاره ومناقشتها قدم للمحكمة مما اضطره لطلب اللجوء السياسي.. فهل يطلب الزملاء من هؤلاء حتي لو اختلفنا معهم أن يعودوا إلي مصر ويدخلوا السجون بدلا من أن ندافع جميعا عن حقوقهم البسيطة في الاعتقاد والتعبير والتنظيم؟.
كانت للنوبيين حكاية أثناء زيارة الرئيس، ففي «تحالف 28 فبراير» الذي كان هناك ناشط نوبي سوداني وضع مطالب النوبيين علي جدول أعمال التحالف وعلي رأسها العودة إلي أراضيهم وتملكها، في نفس الوقت أرسل رئيس رابطة أبناء النوبة طارق جمعه في نيويورك باقة ورد إلي الرئيس «مبارك» في مقر إقامته، وأصدرت الجمعية النوبية الخيرية برئاسة إبراهيم جلال بشير في واشنطن بيانا أكدت فيه التزامها بالنهج العام لسياسة الدولة المصرية والسير في طريق التعاون والمشاركة.
>>>
عدت من واشنطن وأنا علي يقين أنه مهما يكن دور مصر في الاستراتيجية الأمريكية فإن الحليف الرئيسي لأمريكا في المنطقة هي إسرائيل لأسباب تاريخية معقدة علي رأسها أنهما دولتان إمبرياليتان في الأساس، ولذا لن يكون بوسع الإدارة الأمريكية أن تقترب من الطرح العربي لحل الصراع وإقامة الدولة الفلسطينية علي أساس المبادرة العربية للسلام ومرجعيته الشرعية الدولية إلا إذا ابتعدت خطوات عن تطابق مصالحها مع إسرائيل، وهذا الابتعاد لن يكون عملية مزاجية أو أخلاقية ولكنه يمكن أن يتم فقط إذا ما استخدم العرب مجتمعين - وفي القلب مصر - كل أوراق القوة التي يملكونها.. أي النفط والأموال العربية بالمليارات في البنوك الأمريكية والموقع الاستراتيجي وجميعها يمكن أن تكون عوامل تهديد جديدة للمصالح الأمريكية لو شاء النظام العربي.
وأخيرا تقول الباحثة والأستاذة منار الشوربجي المتخصصة في الشئون الأمريكية إنه «منذ انتخاب أوباما والسؤال يتردد حول ما في جعبته بالنسبة لمصر، وهو السؤال الغلط لأنه يصرف الانتباه عن مسألة أكثر أهمية وهي أنه قد آن الأوان لتعيد مصر النظر في طبيعة علاقتها الراهنة بأمريكا، والتوترات المستمرة المعلنة والمكتومة التي شهدتها العلاقات المصرية - الأمريكية في الأعوام الأخيرة بجلاء أن تلك العلاقة في حاجة إلي مراجعة شاملة تعيد صياغتها علي أسس جديدة، بناء علي دراسة نقدية دقيقة لما حدث والدروس المستفادة منها، وعلي أساس رؤية جديدة تتمتع بالخيال السياسي الخلاق، والقضية المطروحة الآن ليست إعادة العلاقة مع أمريكا إلي ما كانت عليه قبل بوش، ولا هي تقوية تلك العلاقة، وإنما هي كيفية إقامة علاقة أكثر توازنا مع أمريكا تحقق أعلي مصلحة مصرية.
>>>
حين غادرنا واشنطن كان الرئيس «باراك أوباما» قد غادرها بدوره ليقضي عطلته الصيفية مع كل من زوجته ميشيل وطفلتيه «شاسا» و«ماليا».. وقبل أن يغادر ليريح أعصابه من الهجوم الضاري الذي تمارسه بعض شركات الأدوية وكبار أصحاب المليارات علي مشروعه للتأمين الصحي الحكومي لكل الأمريكيين إذ كان الكونجرس قد اتخذ قرارا بتأجيل حسم الموضوع إلي ما بعد العطلة الصيفية ولكن أسرة «أوباما» تعرضت لتوبيخ من بعض الصحف لأن ابنتيه تأكلان في مدرستهما وجبة مصنوعة من مواد عضوية لم تدخل فيها أي كيماويات.. وسأل الصحفيون الرئيس.. وماذا عن بقية الأطفال الأمريكيين أليس من حقهم جميعا أن يتناولوا وجبات نظيفة؟.