ملاحظات حول الوضع الراهن في الشرق الأوسط

Publié le par Mahi Ahmed

 

ملاحظات حول الوضع الراهن في الشرق الأوسط  


نعوم شومسكي
 - 2013 / 11 / 30 -  
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    

•منذ أن تضمّنت اتّفاقات أوسلو بندًا يشير إلى أنّ الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة هما وحدة جغرافيّة غير قابلة للتجزئة، يعمل الثنائيّ إسرائيل والولايات المتّحدة الأمريكية على الفصل بين المنطقتين. إحدى النتائج المهمّة لهذا الفصل هي ضمان عدم توافر تواصل مع العالم الخارجيّ لأيّ كيان فلسطينيّ محدود.

•باستثناء ما يتعلّق بالمراحل، إنّ خيار الدولة الواحدة ليس سوى وهم وسراب. لا يتوافر لهذا الخَيار أيّ دعم دوليّ، وما من سبب يدعو إسرائيل وراعيتها الأمريكيّة لقبوله، فهما تحملان في جعبتهما حلاًّ أفضل بكثير، وهو الذي تخوضان الآن في مرحلة تطبيقه؛ ومن خلال الإفلات من العقوبة، بفضل القوّة الأمريكيّة.


(ترجمة: جلال حسن)
في الثالث عشر من شهر تمّوز، وجّه الرئيس السابق لجهاز المخابرات العامّة (شين بيت)، يوفال ديسكين، تحذيرًا شديد اللهجة إلى الحكومة الإسرائيليّة مُفادُهُ أنّ عليها التوصّل إلى نوع من التسوية التي تتضمّن حلّ الدولتين، وإذا لم تقم بذلك فسيتحقق "انتقال للمحصّلة شبه الحتميّة للواقع الوحيد المتبقّي، أي دولة من البحر إلى النهر". المحصّلة القريبة الحتميّة "دولة واحدة لشعبين"، ستفرض "تهديدًا وجوديًّا يتمثّل في محو هُويّة إسرائيل كدولة يهوديّة وديمقراطيّة"، وذلك من خلال أغلبيّة عربيّة فلسطينيّة.
وعلى خلفيةٍ مشابِهةٍ كتب الخبيران البارزان في شؤون الشرق الأوسط، كلايف جونز وبيفرلي ميلتون- إدواردز، في العدد الأخير من المجلّة البريطانيّة الرائدة في الشؤون الدوليّة: "إذا رغبت إسرائيل في أن تبقى يهوديّة وديمقراطيّة، فعليها أن تتبنّى حلّ الدولتين".
من السهولة بمكان اقتباس المزيد من الأمثلة، لكنّ الأمر ليس ضروريًّا البتّة، لأنّه ثمّة فرضيّة شبه عالميّة بوجود خيارين بالنسبة للمنطقة التي تقع غربيّ نهر الأردن: دولتان- واحدة فلسطينيّة والأخرى يهوديّة- ديمقراطيّة، أو دولة واحدة "من البحر إلى النهر". العديد من المعلّقين الإسرائيليّين يعبّرون عن القلق حيال "المشكلة الديموغرافيّة": أعداد الفلسطينيّين في الدولة اليهوديّة تفوق الحدّ المقبول. الكثير من الفلسطينيّين ومناصريهم يؤيّدون "حلّ الدولة الواحدة"، ويتوقّعون شنّ نضال ضدّ الأبارتهايد، ومن أجل الحقوق المدنيّة، وهو ما سيُفضي إلى بناء نظام ديمقراطيّ عَلمانيَ. يطرح محلّلون آخرون هذه الخيارات باستمرار من خلال استخدام مفردات مشابهة.
يحظى هذا النّوع من التحليل بإجماع شبه مطلق، لكنّ عيوبه كثيرة. ثمّة خيار ثالث، وتحديدًا ذاك الذي تسعى إليه إسرائيل بدعمٍ من الولايات المتّحدة. هذا الخيار الثالث يشكّل البديل الواقعيّ الوحيد لتسوية الدولتين التي تحظى بإجماع دوليّ ساحق.
أعتقد أنّ المنطق يستوجب التفكير مليًّا في حلّ الدولة الديمقراطيّة العَلمانيّة ثنائيّة القوميّة المستقبليّة على أرض فلسطين التاريخيّة- من البحر إلى النهر. وبغضّ النظر عن أهمّيّة وقيمة هذا الحلّ، فقد قمت بدعمه ومناصرته لسبعين سنة خلت. لكنّني أشدّد: قمت بمناصَرته. المناصَرة، بخلاف مجرّد الاقتراح، تتطلّب رسم مسار من هنا إلى هناك. تغيّرت أشكال المناصَرة الحقيقية مع تغيّر الظروف. فمنذ منتصف السبعينيّات، عندما أصبحت الحقوق القوميّة الفلسطينيّة مسألة بارزة، تَمَثَّلَ الشكل الوحيد للمناصرة في منهج المراحل، وكانت تسوية الدولتين أوّلَ هذه المراحل. لم يُعرض أيّ مسلك آخر كان سيحظى ولو بقليل من النجاح. عرض تسوية ثنائيّة القوميّة ("الدولة الواحدة") دون الانتقال إلى المناصَرة الفعليّة يوفّر الدعم للخيار الثالث، الذي أصبح الآن واقعيًّا.
الخيار الثالث الذي يتشكل أمام ناظرينا، ليس خافيًا البتّة. إسرائيل تقوم على نحوٍ منهجيّ بتوسيع مخطّطات جرى رسمها والمبادرة إليها بعد فترة وجيزة من حرب العام 1967، وجَرَتْ مَأْسَسَتُها واستكمالها أكثر بعد مرور عشر سنوات على تلك الحرب عندما صعد الليكود بقيادة مناحيم بيغن إلى دفّة الحكم.
تمثّلت الخطوة الأولى في خلق ما يطلِق عليها يوناتان ماندل اسم "المدينة الجديدة المُربِكة"، ألا وهي "القدس"، وتوسيعها على نطاق يفوق بكثير حدود القدس التاريخيّة، وضمّ العشرات من القرى الفلسطينيّة والأراضي المحيطة إليها، وتحويلها إلى مدينة يهوديّة، وإلى عاصمة دولة إسرائيل. كلّ ذلك من خلال الانتهاك المباشر لقرارات مجلس الأمن الواضحة والصريحة. ثمّة ممرّ يقع في شرقيّ القدس الكبرى الجديدة ويربطها بمدينة "معاليه أدوميم" التي أقيمت في سبعينيّات القرن الماضي، لكن بناءها الفعليّ جرى بعد اتّفاقات أوسلو في العام 1993، وضَمّت أراضيَ تصل افتراضيًّا حتّى أريحا، وعليه فهي تقوم ببتر وتقطيع أوصال الضفّة الغربيّة بصورة جدّ بالغة. الممرّات الشماليّة التي تربط القدس بمدينتَيِ المستوطِنين أريئيل وكدوميم تقوم بمزيد من تقطيع الأوصال للمساحات التي تبقّت تحت درجة معيّنة من السيطرة الفلسطينيّة.
في هذا الأثناء، تقوم إسرائيل بقضم المناطق التي تقع على الجانب "الإسرائيليّ" من "جدار العزل" غير الشرعيّ. هذا الجدار ما هو في الواقع إلاّ جدار لضمّ الأراضي الصالحة للزراعة، ومصادر المياه والعديد من القرى، وهو يقوم كذلك بخنق قلنديا، ويعزل القرويّين الفلسطينيّين عن أراضيهم. أمّا في ما تُطْلِق عليها إسرائيل "منطقة التماسّ" ("إزور هَتيفر") بين الجدار والحدود (وتعادل مساحتها ما يقارب 10% من مجْمل أراضي الضفّة الغربيّة)، فالدخول مسموح به للجميع باستثناء الفلسطينيّين، ويَجِد مَن يَقْطن في تلك المنطقة نفسه مرغَمًا على الخوض في إجراءات بيروقراطيّة معقّدة جدًّا بغية الحصول على تصريح دخول مؤقّت، ويواجه مَن يريد الخروج من المنطقة -للحصول على العلاجات الطبّيّة، على سبيل المثال- يواجه الصعوبات ذاتها. الانتهاكات والتشويشات القاسية لروتين حياة الفلسطينيّين هي النتيجة الطبيعيّة لكلّ هذه الممارسات، حيث تُظهِر بيانات الأمم المتحدة تراجعًا بنسبة تفوق 80% في أعداد المزارعين الذين يفلحون أراضيهم بانتظام، وتراجعًا بنحو 60% في محاصيل أشجار الزيتون، وهذه الأمثلة هي غيض من فيض النواتج المؤذية التي تولّدت من بناء جدار العزل. شكّل الأمن الذريعة التي وُظّفت لبناء الجدار؛ والمقصود هنا هو أمن المستوطنين اليهود غير الشرعيّين؛ 80% من جدار العزل يتعرّج عبر الضفّة الغربيّة المحتلّة.
تقوم إسرائيل كذلك بالاستيلاء على غور الأردنّ، وبالتالي فهي تطوّق وتحبس ما تبقّى من الكانتونات الفلسطينيّة. ثمّة مشاريع ضخمة في مجال البنْية التحتيّة والطرق الالتفافيّة تربط المستوطنين بالمراكز الحضريّة الإسرائيليّة، وهذا الأمر يمكّنهم من التنقّل بدون رؤية أيّ فلسطينيّ. وتبعًا للموديل النيو- كولونياليّ التقليديّ، فقد أُبْقِيَ مركز عصريّ للنخب الفلسطينيّة في رام الله، بينما تعيش البقيّة -غالبًا- في حالة من الضعف والهوان.
وفي سبيل استكمال فصل القدس الكبرى عن سائر الكانتونات الفلسطينيّة، تحاول إسرائيل الاستيلاء على المنطقة
E1(وهي منطقة تبلغ مساحتها نحو 12 كيلومترًا مربّعًا، وتربط بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم، ويُطْلِق عليها الإسرائيليّون الاسم "مِفاسيريت أدوميم")، لكن واشنطن أفشلت هذا المسعى حتّى الآن، فتوجّهت إسرائيل إلى استخدام الحيل والألاعيب نحو بناء نقطة للشرطة في المكان. أوباما هو الرئيس الأمريكيّ الأوّل الذي لم يضع أيًّا من القيود على الإجراءات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة، وسننتظر لنرى ما إذا كان سيسمح للإسرائيليّين بالسيطرة على المنطقة E1، وربّما سيسمح لهم بذلك من خلال التعبير عن استيائه من هذا الإجراء ومن خلال غمزة عين توضّح أنّه ليس مستاءً في حقيقة الأمر.
عمليّات إبعاد الفلسطينيّين تسير على قدم وساق، على نحوٍ ثابت واعتياديّ. في غور الأردن وحده، تراجع عدد السكّان الفلسطينيّين من 300,000 نسمة في العام 1967 إلى 60,000 في يومنا هذا. هذه الممارسات تطبَّق في مختلف أرجاء الضفّة الغربيّة. وتبعًا لسياسة "دونم إثر دونم" المنتهَجة منذ بداية القرن العشرين، كلّ خطوة تُتَّخذ على مستوى محدود النطاق، بغية عدم لفت أنظار المجتمع الدوليّ، لكنّها جميعًا تحمل بعدًا تراكميًّا، ونيّة واضحة.
لا تقف الأمور عند هذا الحدّ، فمنذ أن تضمّنت اتّفاقات أوسلو بندًا يشير إلى أنّ الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة هما وحدة جغرافيّة غير قابلة للتجزئة، يعمل الثنائيّ إسرائيل والولايات المتّحدة الأمريكية على الفصل بين المنطقتين. إحدى النتائج المهمّة لهذا الفصل هي ضمان عدم توافر تواصل مع العالم الخارجيّ لأيّ كيان فلسطينيّ محدود.
المجموعات السكّانيّة الفلسطينيّة التي تقطن في المناطق التي تستولي عليها إسرائيل ضئيلة الحجم ومبعثرة، ويجري تقليصها أكثر فأكثر من خلال عمليّات الإبعاد المنتظمة. محصّلة كلّ هذه الإجراءات ستكون على شاكلة دولة إسرائيليّة كبرى ذات أغلبيّة يهوديّة ساحقة. تحت مظلّة الخيار الثالث لن تكون هنالك "مشكلة ديموغرافيّة"، ولا حقوق مواطن، ولا نضال ضدّ الأبارتهايد، ولن يكون هناك أكثر ممّا هو قائم الآن داخل الحدود الإسرائيليّة المعترَف بها، حيث تُرنَّم تعويذة "يهوديّة وديمقراطيّة" على نحوٍ منتظم لصالح مَن يختارون -متغافلين- تصديق التناقض المتأصّل، الذي هو أبعد بكثير من أن يكون مجرّد مسألة رمزيّة.
باستثناء ما يتعلّق بالمراحل، إنّ خيار الدولة الواحدة ليس سوى وهم وسراب. لا يتوافر لهذا الخَيار أيّ دعم دوليّ، وما من سبب يدعو إسرائيل وراعيتها الأمريكيّة لقبوله، فهما تحملان في جعبتهما حلاًّ أفضل بكثير، وهو الذي تخوضان الآن في مرحلة تطبيقه؛ ومن خلال الإفلات من العقوبة، بفضل القوّة الأمريكيّة.
تدعو الولايات المتّحدة وإسرائيل إلى إجراء مفاوضات بدون شروط مسبقة. المحلّلون في هذين البلدين وفي أماكن أخرى في الغرب يدّعون أنّ الفلسطينيّين هم الذين يضعون شروطًا مسبقة تعرقل "عمليّة السلام". في واقع الأمر، تصرّ الولايات المتّحدة- إسرائيل على عدد من الشروط المسبقة المصيريّة. أوّل هذه الشروط هو أن تُعْقَد هذه المفاوضات برعاية الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي لا تشكّل طرفًا حياديًّا بل هي شريك في الصراع. مثَلُ ذلك كمثَلِ أن تقوم إيران بالتوسّط لمعالجة الصراع السنّيّ- الشيعيّ في العراق. توضع المفاوضات التي تتحلّى بالمصداقيّة في يد دول حياديّة تتمتّع بدرجة من الاحترام الدوليّ. الشرط المسبق الثاني هو وجوب السماح بمواصلة عمليّات الاستيطان غير الشرعيّ، على المنوال الذي تواصلت فيه دون توقّف خلال مدّة العشرين عامًا من اتّفاقيّة أوسلو؛ مع مراعاة شروط الاتّفاقيّة.
محاولات المضيّ قُدُمًا بإجماع دوليّ حول تسوية الدولتين تواجَه باستنكار من قِبَل الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل باعتبارها تُضّر بـِ "عمليّة السلام" على النحو الذي تدار فيه هذه العمليّة من قِبَل واشنطن، والتي تقوم في هذا الأثناء بمنح الدعم الكامل للخيار الثالث الواقعيّ.
في سنوات الاحتلال الأولى، انضمّت الولايات المتّحدة إلى العالم في اعتبار أنّ المستوطنات لا تتحلّى بالشرعية- كما أُقِرّ من قِبَل مجلس الأمن الدوليّ ومحكمة العدل الدوليّة. منذ حقبة ريغان، جرى تخفيض مكانة المستوطنات وتحوّلت إلى "عائق أمام إحلال السلام"، وقام أوباما بمزيد من الإضعاف لهذه المكانة وأعلن أنّ المستوطنات "لا تساعد في إحلال السلام"، مُلحِقا ذلك ببعض العتب الذي يمكن تجاهله بسهولة. نهْج أوباما الرافض لفتَ بعض الانتباه في شباط عام 2011، عندما استخدم الفيتو ضدّ قرار مجلس الأمن الداعم للسياسة الرسميّة الأمريكيّة الداعية إلى إيقاف عمليّات توسيع المستوطنات.
ما دامت هذه الشروط المسبقة سارية المفعول، من المرجّح أن تبقى الدبلوماسيّة تراوح في مكانها. وعلى الرغم من بعض الاستثناءات النادرة والقصيرة، تتواصل هذه المراوحة في المكان منذ شهر كانون الأوّل عام 1976، عندما استخدمت الولايات المتّحدة الفيتو ضدّ مشروع قرار قدّمته مصر والأردنّ وسوريّا إلى مجلس الأمن، دعا إلى تبنّي حلّ الدولتين على أساس حدود الخطّ الأخضر المعترَف بها دوليًّا، مع ضمانات لجميع الدول بأن تعيش داخل حدود آمنة ومعترف بها. هذا هو الإجماع الدوليّ من حيث الجوهر مع حالَتيْ الاستثناء المعهودتين. جرى تعديل هذا الإجماع وأصبح يشمل "تعديلات متبادلة وطفيفة" على الخطّ الأخضر، في استعارة للصياغة التي تبنّتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة قبل أن تقوم هذه الأخيرة بتبنّي منهجٍ مغايِر لذاك الذي تتبنّاه سائر دول العالم.
تستطيع أوروبا القيام بدَوْر في تعزيز الآمال بتسوية دبلوماسيّة سلميّة لو توافرت لديها إرادة في اتّباع مسار مستقلّ. القرار الأوروبيّ الأخير بإقصاء المستوطنات اليهوديّة في الضفّة الغربيّة من الصفقات التجاريّة مع إسرائيل يشكّل خطوة في هذا الاتّجاه. السياسة الأمريكيّة هي كذلك ليست محفورة على الصخر، على الرغم من أنّها تضرب جذورًا إستراتيجيّة واقتصاديّة وثقافيّة غائرة في العمق. في غياب مثل هذه التغييرات، كلّ الأسباب تدفع وتدعو للتوقّع أنّ الصورة من النهر إلى البحر ستتطابق مع الخيار الثالث. حقوق الفلسطينيّين وطموحاتهم ستوضع على الرفّ -مؤقّتًا على الأقلّ.
إذا لم يجرِ حلّ الصراع، فستبقى التسوية السلميّة على مستوى المنطقة بعيدة المنال. سيحمل هذا الفشل إسقاطات بعيدة المدى، لا سيّما بالنسبة لما يطلِق عليه الإعلامُ الأمريكيّ "التهديد الأكبر على السلّم العالميّ"، الذي يقوم بترديد تصريحات الرئيس أوباما والغالبيّة العظمى في صفوف الطبقة السياسيّة، أي برنامج إيران النوويّ. هذه الإسقاطات تصبح جليّة إذا أخذنا بعين الاعتبار السبلَ الأكثر وضوحًا للتعامل مع هذا التهديد المزعوم، ومصيرها. من المفيد أوّلاً أن نراجع جملةً من الأسئلة الاستباقيّة: من يعتبر أنّ هذا التهديد يحمل أهمّيّة كونيّة؟ وما هو التهديد الفعليّ والملموس؟




الإجابة عن هذين السؤالين بسيطة ومباشرة. هذا التهديد يشكّل هوسًا غربيًّا بامتياز: إنّها الولايات المتّحدة وحلفاؤها. دول عدم الانحياز (أي غالبيّة دول العالم) دعمت بقوّةٍ حقَّ إيران – بوصفها إحدى الدول التي وقّعت على معاهدة الحدّ من الانتشار- في تخصيب اليورانيوم. العالم العربيّ غير شغوف بإيران بعامّة، لكنّها لا تشكّل بنظره تهديدًا عليه. في واقع الأمر -وعلى نحوِ ما تُظهر استطلاعات الرأي مرّة تلو الأخرى- غالبيّة سكّان الولايات المتّحدة وإسرائيل -دون سواهم- يتعاملون مع إيران على أنّها تشكّل مصدر تهديد.
في الخطاب الغربيّ، يسود ادّعاء ملخَّصُهُ أنّ العرب يدعمون موقف الولايات المتّحدة تجاه إيران، لكن المرجعيّة في هذا الأمر هي طبقة الحكّام الطغاة، لا عموم السكّان الذين يُنظَر إليهم في العقيدة الديمقراطيّة السائدة باعتبارهم مجرّد إزعاج غير ذي أهمّيّة. معيار آخر هو الإحالة إلى " المواجهة بين المجتمع الدوليّ وإيران" كما يُطرح في الأدبيات العلمية الحالية. عبارة "المجتمع الدوليّ" في هذا السياق تشير إلى الولايات المتحدة وكلّ من يصادف السير معها؛ وهؤلاء في الحالة الماثلة أمامنا زمرة قليلة من المجتمع الدولي ، لكنّهم أكثر من ذلك بكثير إذا ما أصبحت المواقف السياسية تُزان بميزان القوّة.
ما هو إذًا هذا التهديد الملموس؟ المخابرات الأمريكيّة والبنتاغون يقدّمان الإجابة عن هذا السؤال في الاستعراضات الاعتياديّة والدوريّة التي يقدّمانها حول الأمن العالميّ. يَخلُص الطرفان إلى استنتاج مُفادُه أنّ إيران لا تشكّل تهديدًا عسكريًّا. نفقاتها العسكريّة متدنّية حتّى بالمعايير السائدة في المنطقة، وهي لا تتحلّى إلاّ بقدرة محدودة في نشر القوّات. عقيدة إيران الإستراتيجيّة تحمل طابعًا دفاعيًّا، وجرى تصميمها بغية صدّ الهجمات. تقارير وكالات الاستخبارات تشير إلى عدم وجود أدلّة بأنّ إيران تقوم بتطوير السلاح النوويّ، وإذا كانت تقوم بذلك فلا يشكّل ذلك سوى جزء من عقيدتها الدفاعيّة.
من الصعب التفكير بدولةٍ في العالم تحتاج إلى الدفاع عن نفسها أكثر من إيران. لقد عانت هذه الدولة من المضايقات الغربيّة بدون توقّف منذ أن جرى إسقاط نظامها البرلمانيّ خلال انقلاب عسكريّ أمريكيّ- بريطانيّ في العام 1952، بداية من قِبَل نظام الشاه الوحشيّ والقاسي، ولاحقًا من خلال الهجمات الدمويّة التي شنّها صدّام حسين بدعم من الغرب. التدخّل الأمريكيّ هو الذي حثّ إيران على الخضوع؛ وبعد ذلك بفترة وجيزة قام الرئيس جورج بوش الأوّل بدعوة مهندسي الذرّة العراقيّين إلى الولايات المتّحدة للتدرّب على إنتاج الأسلحة المتطوّرة، ممّا شكّل تهديدًا استثنائيًّا على إيران. سرعان ما تحوّل العراق إلى عدوّ، لكن إيران خضعت في هذه الأثناء لعقوبات قاسية، شهدت منذئذ تصعيدًا متواصلاً بمبادرة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وصولاً إلى أيّامنا هذه. إيران تتعرّض على نحوٍ ثابت لتهديد بالهجوم العسكريّ من قِبَل الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل، من خلال انتهاك ميثاق الأمم المتّحدة -إن كان ثمّة مَن يكترث أصلاً لهذا الانتهاك.
على الرغم من ذلك، إنّ الولايات المتّحدة- إسرائيل تَعتبران سياسة الرّدع الإيرانيّ تهديدًا لا يُطاق. هذا الموقف مفهوم، إذا أنّ الردع الإيرانيّ يحدّ من قدرة الطرفين على الهيمنة على المنطقة، وبالقوّة إذا ما ارتأتا ذلك، وهو ما فعلتاه أحيانًا. هذا هو جوهر التهديد الإيراني الملموس.
لا يكاد أحد يشكّك في أنّ نظام الملالي يشكل تهديدًا على شعبه، لكن من دواعي الأسف أنّه ليس النظام الوحيد الذي يقمع شعبه في العالم. على الرغم من ذلك، إنّ الاعتقاد بأنّ القمع الداخليّ في إيران هو ما يقضّ مضاجع القوى العظمى يشكّل أكثر من مجرّد موقف ساذج.
بصرف النظر عن موقف المرء من هذا التهديد، أما من سبيل للحدّ منه؟ ثمّة في واقع الأمر عدد من السبل. أحد أكثرها معقوليّةً هو التحرّك في اتّجاه خلق منطقة معزولة من السلاح النوويّ ، على نحوِ ما طرَحته بقوّةٍ حركةُ دول عدم الانحياز، ولا سيّما الدول العربيّة، وفي واقع الأمر كما طرحته غالبيّة دول العالم. الولايات المتّحدة وحلفاؤها تدعم نزع السلاح النوويّ لفظيًّا، لكن تعاونها في هذا المضمار شبه معدوم. كان من المفترض أن يُعقد في فنلندا مؤتمر دوليّ تحت مظلّة معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة، ابتغاءَ المضيّ قُدُمًا بهذه المخطَّطات. رفضت إسرائيل المشاركة في المؤتمر، لكنِ الكثيرون تفاجئوا من إعلان إيران أنّها ستَحْضر المؤتمر دون شروط مسبقة. عندئذ أعلنت الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن إلغاء المؤتمر من خلال تكرار الادّعاءات الإسرائيليّة أنّ مؤتمرًا كهذا سابق لأوانه قبل تأسيس [منظومة] أمن إقليميّ. دعت الدول العربيّة وروسيا والبرلمان الأوروبيّ إلى تجديد فوريّ للمبادرة، لكنِ الجميع يعلمون أنّ ما يمكن فعله بدون الولايات المتّحدة الأمريكيّة قليل جدًّا.
التفاصيل ضبابيّة. لا يمكن الحصول إلاّ على قليل من الأدلّة الوثائقيّة، وجميعها مرّت دون تحقُّق وتحقيق. تحديدًا، لم تقم الصحافة الأمريكيّة بالتحقّق والاستفسار، بل إنّها نشرت كلمة واحدة فقط حول المجهود الأكثر منطقيّةً وعمليّة لتناول ما أفيد حوله بأنّه "التهديد الأكثر خطورة على السلْم العالميّ".
إلى ذلك، من الواضح -إلى حدّ ما- أنّ الدول العربيّة وغيرها تنادي للقيام بخطوات لإزالة أسلحة الدمار الشامل على نحوٍ فوريّ كخطوة في اتّجاه تحقيق الأمن الإقليميّ. في المقابل، تقوم إسرائيل والولايات المتّحدة بقلب الترتيب وتطالبان بتحقيق الأمن الإقليميّ (أيْ أمن إسرائيل) كشرط مسبق لإبادة أسلحة من هذا القبيل. في الخلفيّة المتّصلة، ثمّة إدراك أنّه لا أحد في المنطقة يملك منظومة نوويّة متطوّرة سوى إسرائيل، وهي الوحيدة التي ترفض الانضمام إلى معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة، بالإضافة إلى الهند وباكستان اللتين تستفيدان أيضًا من الدعم الأمريكيّ لترسانتهما النوويّة.
إذًا الرابط بين الصراع الإسرائيليّ- الفلسطينيّ والخطر الإيرانيّ المزعوم واضح وجليّ. ما دامت الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل مصمّمتين على موقفهما الرافض، وما دامتا تصدّان الإجماع الدوليّ حول حلّ الدولتين، لن تتوافر أيّ ترتيبات لتحقيق الأمن الإقليميّ، وبالتالي لن تُتَّخَذ أيّة خطوات لتأسيس منطقة خالية من السلاح النوويّ، وتخفيف -وربّما إنهاء- ما تزعم الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل أنّه التهديد الأكثر خطورة على السلام، وعلى الأقلّ القيام بذلك بالطريقة الأوضح والأكثر تأثيرًا.
من الجدير ذكْره أنّ الولايات المتّحدة -بالإضافة إلى بريطانيا- تتحمّل مسؤوليّة تسخير كامل جهودها من أجل بناء شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النوويّة. عندما حاول الطرفان المعتديان توفير غطاء شرعيّ هزيل لغزو العراق، استنجدا بقرار مجلس الأمن الدوليّ ذي الرقم 687 من العام 1991 الذي ادّعى أنّ صدّام حسين قام بانتهاك مطلب إيقاف برامجه النوويّة. هذا القرار ضمّ فقرة أخرى تنادي باتّخاذ "خطوات في سبيل تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل"... وتُرْغَم الولايات المتّحدة وبريطانيا -أكثر من سِواهما- على الإمساك بزمام المبادرة على نحوٍ جِدّيّ.
بطبيعة الحال، إنّ الملاحظات التي أوردتُ هنا تلامس السطح ليس إلاّ، وتُغفل الكثير من القضايا الساخنة، بما في ذلك المنحنى المرعب لسوريا نحو الانتحار، والتطوّرات التي تنذر بالسوء في مصر، والتي تحمل في طيّاتها تأثيرات إقليميّة أكيدة، وقضايا أخرى كثيرة. هكذا تبدو بعض القضايا الجوهريّة -بالنسبة لي على الأقلّ.
 

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article